سبق وأن تحدثنا في المقال السابق، عن حقيقة الاختلاف وتعدد الاجتهادات بين الناس، وأن هذه حقيقة بشرية لا يمكن إنكارها، بل إن التغاضي عنها، والعمل على إلغائها يوقع الأمة في مآلات مرفوضة تؤثر على مجمل الأمة وتطورها ودورها، والشواهد في التاريخ كثيرة ومتعددة.
ومن ناحية آخرى، فالتعددية وتنوع الاجتهادات لها الكثير من الآثار الإيجابية، والتي تمثل دون أدنى شك، تنوعاً مفيداً ورؤى متعددة لقيادة الدعوة وأفرادها، إذ إن القيادة لا يمكن أن تصل لما هو أفضل لها في شؤونها المختلفة دون أن توازن بين الآراء والاقتراحات المتعددة، والتي تقوي بعضها البعض، وتكشف عما هو قوي وما هو ضعيف.
وفي ظل وقتنا الحالي، حيث تكثر المسائل والمستجدات، وأصبحت النقاشات والخلافات تخرج عن إطارها الداخلي لتظهر للعيان على الإنترنت والإعلام وغيرها، تحتاج الدعوة إلى تعامل جدي مع هذا الأمر، حتى تحافظ على انسجامها وقوتها، وتصعّب اختراقها على أعدائها.
"غياب احترام الآخر، وعدم شعور الأفراد بقيمة آرائهم واحترامها يولد لديهم حالة غضب داخلية، لا تجد إلا من وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها كوسيلة لتخفيفه وإزالته"
ومن هذا المنطلق لابد من التأكيد على أن غياب احترام الآخر، وعدم شعور الأفراد بقيمة آرائهم واحترامها يولد لديهم حالة غضب داخلية، لا تجد إلا من وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها كوسيلة لتخفيفه وإزالته. ولا يفهم من كلامي أنني مع هذا الأمر، إلا أن المقدمات تؤدي إلى النتائج، والنفوس التي تشعر بالضغط لابد وأن تبحث عن أي أمر تشعر فيه بإمكانية الفضفضة والتعبير، وأن التهديد بالعقاب كما يفعل بعض المربين، لا يمكن أن يمنع إنساناً تربى على مواجهة المصادرين للآراء والحريات، من التعبير عن رأيه.
يحتاج الأفراد خصوصاً الشباب الذين يخالطون أصحاب التيارات المختلفة، ويجسدون الدعوة على أرض الواقع، في الجامعات والنقابات وغيرها، وفي المظاهرات والحراكات الشعبية، إلى مظلة تحوي آراءهم المبنية على تصور أقرب للعملية منه للتنظير، وهو ما يشكل ترجمة للكثير من الأفكار الدعوية، إذا أحسنا ترشيدها والتعامل معها.
بالإضافة إلى ما سبق، لابد أن يفهم الجميع أن مصلحة الدعوة أعلى وأهم من أية مصلحة شخصية، أو وجهة نظر فردية، لكن لا يصح أن تصادر الآراء والحريات لأجل هذه المصلحة. وفي المقابل، هناك ضرورات وقتية ومكانية، لا تستطيع القيادة أن تتجاهلها.
"إن العلاقة بين القيادة والأفراد أشبه بسكتي قطار، تظلان تسيران مع بعضهما البعض في سبيل وصول القطار إلى محطته، وهو الأمر الذي لابد أن يدركه الجميع"
إن العلاقة بين القيادة والأفراد أشبه بسكتي قطار، تظلان تسيران مع بعضهما البعض في سبيل وصول القطار إلى محطته، وهو الأمر الذي لابد أن يدركه الجميع.
لقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مصلحة الدعوة أهم من تكبير المشكلات وتضخيم الأخطاء رغم وجودها، حينما قال لأحد أصحابه وقد هم أن يقتل ابن سلول زعيم المنافقين، "دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه". وأجزم أنه لا يوجد من هو مثل ابن سلول بيننا، ولا نصيفه، لكن أخطاءنا في الحكم على الآخرين، والتعامل معهم وشيطنتهم تجعلهم لدى المتعصبين أكبر من ذلك!
إن تعدد الآراء والاجتهادات، وحتى الأخطاء من قبل أفراد الدعوة، لابد أن تعامل وفق فلسفة واضحة، تقوم على وظيفتنا كدعاة إلى الله، نسعى لإصلاح النفوس، ونبحث عما يرتقي بهم ويحقق لهم الخير، وليس مقبولاً أن نقولب هذه الآراء إلى قوالب شخصية، بحيث ننسى أننا في النهاية لا نهدف إلا لتحقيق رضا الله وسيادة وعزة شرعه ومنهجه.
إن التسلط والفوقية في التعامل مع الأفكار لا يمكن أن يحدد الصحيح من غيره، لأنه خاضع للهوى والنظرات الضيقة، وهو ما يجدر بالداعية أن يتجنبه ويبتعد عنه، بالإضافة إلى ضرورة دراسة الأفكار بموضوعية، فأفكارنا قد تكون منقوصة تنظر للأمور من زاوية معينة دون أن تشمل كل الزوايا.
"لابد أن تُدرس جميع الأفكار دراسة جدية، دون أن يكون مصيرها في "الدرج"، لأن هذا يتنافى مع منهج النبي عليه الصلاة والسلام، الذي كان أكثر الناس مشاورة لأصحابه، وكان كلما واجه أمراً قال لأصحابه: "أشيروا علي أيها الناس"
ولهذا لابد أن تُدرس جميع الأفكار دراسة جدية، دون أن يكون مصيرها في "الدرج" أو على "الرف"، لأن هذا يتنافى مع منهج النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان أكثر الناس مشاورة لأصحابه، وكان كلما واجه أمراً قال لأصحابه: "أشيروا علي أيها الناس".
إن القيادة تحتاج في هذا الصدد إلى ثلاثة أمور:
الأول: تفعيل الشورى الجماعية وتنمية روح المبادرة والاقتراح لدى الأفراد، والتعامل مع الآراء المخالفة بموضوعية، بعيداً عن الشخصنة وغيرها.
الثاني: دراسة البعد والمآل للتصرفات، خصوصاً ما يتعلق باتخاذ القرارات مع المخالفين لأوامرها، بحيث لا يسقط هيبتها، ولا يحقق شرخاً في جسم الدعوة.
الثالث: تعزيز الخطاب التربوي للأفراد، واحتواؤهم فكرياً، وزرع القيم التي تبين لهم أهمية الحفاظ على مصلحة الدعوة، وتقديمها على مصلحتهم الخاصة، وتعزيز ثقتهم بالقيادة، ودورهم في مساعدتها على تحمل أعبائها، وأن المصلحة والمفسدة تعم الجميع قيادة وأفراداً.
ختاماً.. لابد أن نستذكر أن الدعوة في حالة حرب حقيقية مع قوى كثيرة، نتيجة دورها الهام وثقة الشعوب بها، وهذا لابد أن يلقي على الأفراد مسؤولية إضافية، تتمثل بالحفاظ على جسمها وقوتها، حتى لا نفتح لهم مجالاً للاختراق والتأثير عليها من الداخل.