إن تصحيح المفاهيم المغلوطة والأفكار الخاطئة ينبغي أن تكون له الأولوية المطلقة في الصحوة الإسلامية؛ لأن أعمال الناس وسلوكهم إنما هي في الغالب ثمرة لما استقر في داخل أنفسهم من أفكار وتصورات تستقيم باستقامتها، وتعوج باعوجاجها، فإذا صححنا التصورات والأفكار انطلقنا لتحريك الصحوة وتربية الناس عليها؛ حتى يجتمع الوجدان والإرادة مع الفكر، لتكوين سلوك مستقيم.
مخاطر التركيز على الفروع والجزئيات:
وأول ما ينبغي تصحيح التصور فيه وتوجيه الاهتمام إليه هو ما وقع فيه بعض فصائل الصحوة الإسلامية المعاصرة من التركيز الشديد على الفروع والذيول والجزئيات والهامشيات من الأمور، بدل التركيز على الأصول والكليات والأساسيات؛ ولهذا التركيز الكثير من المثالب والأخطار، منها:
1- أنه مخالف للمنهج القرآني والنبوي:
فالقرآن الذي أنزله الله في ثلاثة وعشرين عامًا، ظل ثلاثة عشر عامًا -أي طوال العهد المكي- يعنى بإيضاح الأصول والكليات، من العقائد والأخلاق والأعمال، والنبي صلى الله عليه وسلم ظلَّ طوال هذه المرحلة يربي الجيل الأول على هذه المعاني الكبار، وهذه القيم العليا، اعتقادًا وتعبدًا وخلقًا وسلوكًا وفكرًا وعملاً؛ بل إن العهد المدني نفسه- وهو عهد التشريع- لم ينسَ يومًا التذكير بهذه الأصول، فكثير من التشريعات تبدأ بصيغة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) دلالة على أن الإيمان هو أساس الالتزام بالتشريع والمحرك للعمل.
2- أن مفردات الجزئيات والفرعيات والهامشية لا تكاد تنتهي:
فمن شغل نفسه بها أكلت جهده، والتهمت وقته، ولم تدع له من طاقة الجسم والفكر والنفس ما ينفقه في خدمة الأصول والقضايا الكبرى؛ ولهذا جاء عن ابن مسعود: "ما اجتهد قوم في بدعة إلا أضاعوا مثلها من السنة"، وقال أحد الحكماء: "ما وجدت إسرافًا إلا بجانبه حق مضيع".
3- أن هذه الجزئيات الفرعية مظنة الخلاف دائمًا أو غالبا:
لأن أدلتها ظنية الثبوت، ظنية الدلالة؛ ولهذا يكثر فيها الخلاف، وتتعدد فيها الآراء تبعًا لتعدد الأفهام، والتركيز على هذه الفرعيات من أبناء الصحوة يوقع الخلاف بينهم؛ بل قد يزرع بينهم الشقاق والبغضاء التي تحلق الدين. ويتساءل البعض: لماذا لا يُدعى الجميع إلى الرأي الصواب، والمذهب الحق، ويتفقون عليه بدل الخلاف والاختلاف؟
والجواب: أنه ليس في هذه المسائل الجزئية الاجتهادية رأي أو مذهب يُجزم بأنه الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، والحق الذي لا يشوبه باطل؛ ولهذا ذهب بعض الأصوليين إلى أن آراء المجتهدين جميعًا في المسائل الجزئية العملية صواب؛ بل حكم الله فيها ما انتهى إليه اجتهاد المجتهد، والرأي الأول أرجح فيما أرى.
"من خطوط ترشيد الصحوة الإسلامية الانتقال من المختلف فيه إلى المتفق عليه، بحيث لا تكون المسائل الخلافية هي شغلها الشاغل وهمها الأكبر، فهناك أناس مولعون بالبحث عن مواضع التمايز أو التباين بينهم وبين غيرهم، ولا يبحثون عن مواضع الالتقاء بينهم وبين الآخرين"
من المختلف فيه إلى المتفق عليه:
من خطوط ترشيد الصحوة الإسلامية الانتقال من المختلف فيه إلى المتفق عليه، بحيث لا تكون المسائل الخلافية هي شغلها الشاغل وهمها الأكبر، فهناك أناس مولعون بالبحث عن مواضع التمايز أو التباين بينهم وبين غيرهم، ويركزون كل التركيز على هذه المواضع، ولا يبحثون عن مواضع الالتقاء بينهم وبين الآخرين، ولا ريب أن التميز مطلوب لكل صاحب فكرة من فرد أو جماعة، ولا يطلب من صاحب الفكرة أن يتنازل عن فكرته، والتميز هنا ثمرة الإيمان بسمو الفكرة وكمالها؛ لكن هنا أمران مهمان:
الأول: أن التميز إنما يطلب ويلزم ويتأكد حين تكون هناك اختلافات جذرية في الأهداف، أو في المناهج؛ كالاختلاف في العقائد والأصول ونحوها.
الثاني: أنه مع التميز الواجب عند الاختلاف في الأصول والمبادئ يجب ألا ننسى نقاط الاتفاق، ومواضع الالتقاء، التي يمكن الابتداء منها بإقامة جسور للتعارف أو الحوار أو التعايش، ويحضرني في هذا قوله تعالى: (وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (العنكبوت: 46).