الفرق بين التربية العميقة والتربية السطحية كالفرق بين صياد اللؤلؤ وصياد السمك، فالأول يحتاج لجهد كبير ونفس طويل فهو ليس في نزهة بحرية بل يقوم بمهنة متعبة شاقة تحتاج لصبر وأناة وانتقاء للصدف وتخير اللؤلؤ الأجود والأثمن، وهذا يحتاج منه لغوص عميق في قاع البحر ولن يصل لمبتغاه إذا بقي على السطح. في حين همّ الثاني أن يلقي الشبكة في المياه ويرضى بأي نتيجة حتى لو كانت سمكة صغيرة ولربما تخرج الشبكة فارغة.
ومن خلال ما سبق، فإن المربي عليه أن يكون كصياد اللؤلؤ فلا يرجو المربي من تربيته إخراج طلاب سطحيين يرضى منهم بأية نتيجة بل عليه إخراج طلبة مربين تربية عميقة كاللؤلؤ المكنون في عمق البحر، وهذا يحتاج للصبر والأناة والاجتهاد والنفس الطويل.
ولا شك أن بعض المربين يكتفون بتربية سطحية تركّز على بعض الشكليات أو الأمور التي تتعلق برعاية المـُربى لا بتربيته تربية حقيقية، فينحرف المـُربى في أول فتنة يتعرض لها، والتربية بهذا الأسلوب مضيعة للجهد والوقت دون طائل .
مؤثرات داخلية وخارجية
هناك العديد من المؤثرات الداخلية والخارجية، التي تؤدي بالمربين إلى اختيار التربية السطحية للأفراد، وأبرزها:
المؤثرات الداخلية
"من المؤثرات الداخلية للتربية السطحية، قلة خبرة المربي التربوية ، فتراه يخبط خبط عشواء في العملية التربوية، فإذا وصل لأية نتيجة اعتبر أنه وصل للمراد من العملية التربوية"
- قلة خبرة المربي التربوية ، فتراه يخبط خبط عشواء في العملية التربوية، فإذا وصل لأية نتيجة اعتبر أنه وصل للمراد من العملية التربوية، ويدخل في هذا الباب التأثر بمظاهر المتربين الخارجية من لباس وعبادة ظاهرة وغير ذلك.
- عدم إخلاص المربي لله تعالى في تربيته فهو يسعى لإظهار نفسه أمام المجتمع المحيط بأنه قدّم إنجازاً تربوياً، فيتحدث الناس عن إنجازاته.
- ضعف شخصية المربي أمام الطلبة فيسعى لإرضاء الطلبة بأي شكل، مما يؤدي لحرف العملية التربوية عن مسارها الصحيح فينتج عن ذلك طلبة سطحيين .
- تعلق المربي العاطفي بطلبته، فيختل الميزان التربوي عنده لخضوع تقييم الطلبة للعاطفة والقلب، فيعطي الطلاب تقييم فوق ما يستحقون.
- قلة لقاء المربي بالطلبة بسبب انشغاله أو بسبب طبيعة اللقاءات التربوية، كأن تكون أسبوعية أو شهريةً مما يؤدي إلى تأثر الطلبة بكثير من المؤثرات الخارجية فتهدم ما يبنيه المربي أولاً بأول.
- اعتقاد المربي أو المعلم أن الإنجاز في المنهاج النظري يؤدي إلى الارتقاء بالطلبة تربوياً، دون الانتباه إلى الفرق بين الأمور النظرية والعملية.
وتتمثل المؤثرات الخارجية بالأمور التالية
- الضغط المستمر على المربي من قبل قياداته في العمل التربوي لإيجاد نتائج ملموسة في العمل فيلجأ لتسريع العملية التربوية، فلا تأخذ كل مرحلة ما تريده من وقت، فطبيعة التربية كمن يطبخ على نار هادئة فإذا زاد النار احترق الطعام ، فينتج من وراء هذه العملية طلاباً شبه مربين .
- تأثر المربي بتقييم الآخرين له ولعمله من خلال الأرقام وحجم العمل، وبتقديري أن تقييم العمل التربوي ومنجزاته لا يخضع للأرقام فقط بل هناك مؤشرات أخرى، فقد يكون من منجزات العملية التربوية شخصاً مؤثراً قوي التربية، وقد يكون لديك العشرات ممن هم عالة على الدعوة، لا يعطوها إلا أرقاماً فقط!!
نحو تربية عميقة
"صناعة الجواهر التربوية تحتاج لسهر وتعب وتفكير من المربي، وهمّ يحمله ويؤرقه، بالإضافة لإبداع وسائل جديدة وبشكل مستمر"
إن صناعة الجواهر التربوية تحتاج لسهر وتعب وتفكير من المربي وهمّ يحمله ويؤرقه بالإضافة لإبداع وسائل جديدة وبشكل مستمر. كما أن قوة المربي العلمية وخبرته التربوية وذكائه لها دور كبير في التربية العميقة للطلبة فلا يرضى بأي نتيجة، بل يسعى لإيجاد أفراد قادرين على التقدم بمسار الدعوة، وحمل أعبائها، وإنجاح وتقوية مشاريعها.
ولهذا، على المربي أن يتجاوز فكرة التربية السطحية، لأنها تدمر المناعة الداخلية للأفراد، ولا توجد إلا من هم عبء على الدعوة، وعليه أن يسعى لتحقيق ما يتوافق مع روح الدعوة، والمتمثل بالتربية العميقة القوية، والتي يمكن تحقيقها من خلال مجموعة من الأمور التي لا بد أن تتفور في المربي، وفي الطبلة والمتربين، والمتمثلة بما يأتي:
أولاً: فيما يتعلق بالمربي
- انتقاء المربين الذين وقع عليهم جهد تربوي سابق، وخاصة من كان متميزاً منهم وعايش المربين فترة طويلة، وممن هم قدوات في سلوكهم وأخلاقهم؛ لأن ذلك يعطي المربي خبرة تربوية سابقة فيقيس عليها ويطورها.
- الحرص على تدريب وتأهيل المربين قبل خوضهم العملية التربوية بالقيام ببعض الدورات في كيفية التعامل مع الطلبة على اختلاف طباعهم وكيفية حل المشكلات وغيرها مما يناسب المربي.
- المطالعة والقراءة والبحوث العلمية المستمرة في مجال التربية والتعليم.
- ربط المربين الجدد في أول العمل التربوي بمستشارين تربويين ذوي خبرات عالية، حتى يقف المربي على قدميه ويتقن المبادئ الأساسية للتربية.
- تعلم المربي أساليب الكشف عن مكنونات النفس البشرية حتى لا ينخدع بالمظهر الخارجي للطلاب.
- العناية بقلب المربي وعلاقته مع الله تعالى، بالإضافة لبعض البرامج الإيمانية والروحانية وتذكيره الدائم بالإخلاص لله تعالى. ولا شك أن تحقيق الإخلاص يحتاج لمجاهدة للنفس، فكلما زاد إخلاص المربي، زاد تأثيره في الطلاب وكما قيل "قل لغير المخلص لا تتعب".
- مراقبة علاقة المربي بالطلبة حتى لا يقع بفخ التعلق العاطفي، وتوجيهه إلى ضرورة عدم تأثير العاطفة على العملية التربوية.
- تكثيف لقاء المربي بطلبته فكلما كان لقاء المربي بالطلبة أكثر كلما كان تأثيره عليهم أكبر.
- تخفيف الضغط على المربي من قبل قيادات العمل التربوي فيما يتعلق بالإنجاز حتى يأخذ العمل طبيعته بأريحية، وتشجيع المربي وتقييم عمله بموضوعية لصعوبة العمل التربوي وأهميته.
ثانيا : فيما يتعلق بالمتربين
وينقسم لقسمين:
-
فيما يتعلق بالمفاهيم
التركيز على تعليم الطلاب مفهوم الالتزام الحقيقي وهو الجوهر الداخلي فلا يعلق المربي طلبته بشكلهم الخارجي أو القيام ببعض العبادات فقط فإذا وصل لها الطالب وصل لغايته، ويغرس المربي في أذهان طلبته أن على المسلم الاستمرار في تزكية نفسه حتى مماته.
-
الوسائل العملية
- العناية بقلب المتربي وتربيته على مراقبة الله تعالى في السر والعلن والإخلاص لله تعالى، فهو لله تعالى ويعمل لله وكله لله تعالى حتى يخرج من دائرة النفاق والرياء، قال تعالى {وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} [سورة البينة] ، والتركيز على ذلك في المنهاج وبعض الأنشطة الإيمانية مثل الصيام والقيام وغيره.
- تعهد المربي طلابه بالمحاسبة المستمرة، فقد قال سيدنا عمر رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم". والمحاسبة قسمين على الأمور الإيمانية بجداول أسبوعية أو شهرية أو غير ذلك، والقسم الثاني على السلوك والأخلاق بتوجيه الطالب بجلسات خاصة من قبل المربي.
- التكاليف المتعلقة بالتطبيق العملي للمنهاج النظري، مثل: الصدقة بعد الدرس المتعلق بها أو الهدية للأم بعد درس بر الوالدين.
- تعليم الطلاب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإشراف مباشر من المربي أو المعلم والطلب منهم أن يكونوا قدوة للمدعوين فيكون الطالب المتأثر قبل المدعوين، قال تعالى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [سورة البقرة:44] .
- استغلال بعض المشكلات والمواقف التي تحدث من الطلبة لزرع القيم وتوجيه السلوك، فقد يستغل المربي الذكي نزاعاً بين طالبين لتعزيز الأخوة بينهما، أو موقفاً لتعزيز غض البصر وهكذا، وهذا من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعن عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ، يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ" متفق عليه .