منذ أن جعلت الخليقة في هذه الأرض، وعَمرها آدم وأبناؤه وهي تحيا في اختلافات كثيرة، فالكون يموج بالكثير من الآراء والصراعات منذ أن أوجده الله، إلا أن القليل هم من تملّكوا فقهاً ودراية فسطروا من خلافاتهم أشعة لا تزال حتى يومنا هذا مثالاً يحتذى بهم.
فقه الخلاف .. بات شيخا هرماً في أيامنا، بسبب الاندفاع خلف الانتصار للنفس والتسرع في إطلاق الأحكام، والبعد عن المنهجية الإسلامية بالرغم من أن كثيراً من هذه الخلافات تنضوي تحت مسمى البحث عن الحقيقة.
كيف يمكننا تحقيق فقه الخلاف والتناصح، هذا ما سنسعى لفهمه مما جاء في سطور حديث المراقب العام السابق لجماعة الاخوان المسلمين في الأردن الأستاذ سالم الفلاحات وحديثه الشيق والخاص لموقع "ـبصائر" .. وإليكم نص الحوار:
بصائر: مع وجود العديد من الحركات والتيارات الإسلامية أصبحت المسائل الخلافية مثار نقاش، وبات من الملحوظ أن الخلافات الفكرية تمتد لتشكل مواقف شخصية وعداوات وأحيانا يصدر ذلك من رموز كبيرة للأسف، يبدو أن الجيل يحتاج لفقه الخلاف، كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟
"الاختلاف يحتاج إلى كيفية وإدارة، ويكون محموداً إذا كان في قضايا تكميلية، لأنه يثري الساحة الإسلامية، بشرط أن لا يكون هدفه التضاد والتناحر"
الفلاحات: الخلاف أمر طبيعي وعادي بين بني البشر، لأن الله عز وجل خلقهم مختلفين، والدليل قوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} [هود:118]. ولو شاء الله لخلقهم بفكر واحد وعقلية واحدة ومنهج واحد إلا أنه عز وجل خلقهم مختلفين وفي هذا إعجاز، فالإنسان بطبعه يتطور ويختلف، قد تلاحظ أن شخصاً ما لو قورنت بداية حياته مع أواسطها ونهاياتها ستجد أن فيها اختلافاً، إنها خاصية أوجدها الله عز وجل في الانسان.
الاختلاف يحتاج لكيفية وإدارة؛ فالاختلاف إذا كان في القضايا التكميلية فهو اختلاف محمود، وقد تركت له مساحات واسعة في الإسلام، وفُتح للعقول المجال للتفكير فيها والأخذ والرد المفتوح حولها، وذلك من أجل إثراء الساحة الإسلامية، شريطة أن لا يكون هدف الخلاف التضاد والتناحر، فكلاهما مرفوض لما يؤدي من فرقة وتناحر وتنازع، ويخالف ما أمر الله عز وجل به في قوله: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} في حين منع الخلاف في القضايا القطعية.
بصائر: هل من الممكن أن نجتر سيرة السلف في هذا المجال؟
"إن ترك الهامش للمخالفين لا يعني بالضرورة إباحة فعلهم، وليس فتوى شرعية بقبول الفعل بل هو مجرد ترك مساحة للرأي لا يترتب عليها أي أذى"
الفلاحات: كتب العلماء والفقهاء في هذه المسألة كثيراً، وأوضحوا كيفية إدارة الاختلاف بين أبناء الأمة، وفي تاريخها تجد صوراً كثيرة مشرقة للخلافات التي شهدتها العصور الأولى.
فمثلاً حينما اختلف سيدنا علي رضي الله عنه مع الخوارج ترك لهم هامشاً ولم يستأصلهم، ولم يسجنهم ولم يمنعهم حقهم في الفيئ والعدل، إلا إذا قاتلوا المسلمين، أما ما عدا ذلك من خلاف فكري فتركه متاحاً.
وهذا المشهد يؤسس للتعددية السياسية التي يتغنّى بها البعض اليوم. وفي الوقت نفسه فإن ترك الهامش للمخالفين لا يعني بالضرورة إباحة فعلهم، وليس فتوى شرعية بقبول الفعل بل هو مجرد ترك مساحة لا يترتب عليها أي أذى.
في العصر القديم كان هناك العديد من صور إدارة الخلاف بحالة عالية الرقي، دعينا نأخذ على سبيل المثال معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه والذي ضرب به المثل القائل "شعرة معاوية" لكثرة ما كان يقول: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما قطعتها، بمعنى الحفاظ على الود حتى في الاختلاف.
وتذكر كتب التاريخ أن عبد الله ابن الزبير كان يمتلك بستاناً يجاور بستاناً لمعاوية رضي الله عنه في المدينة المنورة، وذات يوم اعتدى عمال معاوية على عمال عبد الله ابن الزبير، فغضب ابن الزبير وكتب كتابا شديداً إليه، مدح فيه أمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، وعرّض فيه بأم معاوية هند بنت عتبة، فلما قرأ معاوية الكتاب وكان في مجلسه عدد من مستشاريه، قال: أشيروا علي، فأشاروا عليه بأن يُسيّر بجيش إلى ابن الزبير فيأتي إليه ذليلاً، لكن فقه معاوية كان غير ذلك، إذ كتب لابن الزبير كتاباً قال فيه: من معاوية ابن أبي سفيان إلى عبد الله ابن الزبير ابن أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين: ضم مزرعتي إلى مزرعتك، وعمالي إلى عمالك، ولو كان لي مثلها من المدينة إلى دمشق لجعلتها لك، وجنة الله عرضها السماوات والأرض. يعني أن هذه الأرض لا قيمة لها.. وبهذا سوى الخلاف وأبطله!
بصائر: هل لك أن تطلعنا على بعض من فقه إدارة الخلاف؟
"من فقه الخلاف أن لا يحاسب الطرف الآخر على الخلاف بمجرد حصول موقف واحد، إنما يجب علينا استعراض سيرته وسلوكه بمجمله قبل أن نحاكمه على أخذ تصرف قام به"
الفلاحات: يفترض في إدارة الخلافات أن يحكم العقل ويبتعد المسلم عن التحزب ولتكن سياسته: رأيي صواب لكنه يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لكنه يحتمل الصواب.
كما يجب عليه تجنب الانتصار للنفس والتعميم؛ وذلك بأن يقول: كل هذا الحزب خاطئ، وكل هذه المسيرة خطأ، لنستحضر دائما أن التعميم لا يأتي بخير وعلينا أن نحجم القضايا بحجمها .
أيضا على المسلم أن يحتسب الخلاف ونتائجه وما قد يناله من ظلم أو جهل الطرف الآخر عند الله عز وجل وأن تكون نيته خالصة لوجه ربه الكريم وليس من أجل إثارة الخصومات والحصول على مكتسبات شخصية.
ومن فقه الخلاف أن لا يحاسب الطرف الآخر على الخلاف بمجرد حصول موقف واحد، إنما يجب علينا استعراض سيرته وسلوكه بمجمله قبل أن نحاكمه على أخذ تصرف قام به، كلنا ليس معصوماً عن الخطأ، ولسنا من يحاسب الناس على أخطائهم، لنتذكر إيجابياته فقد يكون أخطأ مرة وأحسن مئة مرة.
وبناء على ما سبق، فالتفكير من منطلق متطرف والوصول إلى مرحلة "أنا الصواب ومن دوني هم الخطأ" فهذه مشكلة، إذ ليس في المسلمين اليوم جماعة المسلمين، بل كل الهيئات والأحزاب والتشكيلات والتنظيمات الإسلامية هي جماعة من المسلمين، وقد تتشكل باجتماعها الأمة المنشودة في المستقبل إن شاء الله، ولا يصح لحزب سياسي أو فكري أن يفرض نفسه على الآخرين ويعتبرهم مخطئين، هذه الحالة غير مقبولة بل هي حالة بدائية طفولية جدا ولا تصح، بل يجب أن تسود ثقافة أن نعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه مما لا يخرج من الملة ولا يدخل في الناس ولا يكفر الإنسان.
بصائر: كيف تعاملت الحركة الإسلامية مع مخالفيها من التيارات ووجهات النظر الأخرى .. وما سياستها في ذلك؟
"للتنظيمات نصوص لابد أن تحترم، وأحيانا يكون هناك مبالغة في تطبيق بعض القوانين والأنظمة الداخلية حرصاً على الحزب أو الجماعة أو التنظيم"
الفلاحات: في البداية أوضح بأن جميعنا من الحركات الإسلامية عليها استدراكات، ونحن نتحدث الآن عن مبادئ تبحث عمن يطبقها، نحن في الإخوان المسلمين نفتح باباً للحوار والتواصل مع بعضنا، لدينا لجان وأقسام خاصة تعنى بتوثيق الصلة بين الجماعة وبين الأخوة الذين غابوا عن ساحتنا بسبب المرض أو الانشغال أو كبر السن، أو من تركوا صفوف الحركة لسبب أو لآخر، وفعلا لمسنا ترابط وعودة الكثيرين منهم لصفوف الحزب والجماعة.
وأيضاً فإن مخالفينا بالتأكيد لم يرتكبوا كبيرة، ربما يكونوا أصحاب وجهات سياسية معينة، قد يكون بعضهم شارك في انتخابات قاطعتها الجماعة أو العكس، أو شارك في حكومة أو قال كلمة يفترض أن تكون صحيحة أو ما شابه، لكن للتنظيمات نصوص يجب أن تحترم، ومع ذلك لو حدث هذا الأمر لا يصح أن يغلق باب الحوار والتواصل.
لذا فالحركة الإسلامية تعمل على استيعاب الرأي الآخر دوماً، ولا أنكر أنه أحيانا يكون هناك مبالغة في تطبيق بعض القوانين والأنظمة الداخلية حرصاً على الحزب أو الجماعة أو التنظيم، أحيانا يساء فهمنا، نسعى دائماً لتحقيق موقف معتدل بين التسيب والانفلات، ويجب في العمل التنظيمي الملتزم إيجاد حالة مدروسة ومستوعبة بالعقل الدعوي وليس بالعقلية الإدارية فقظ.
بصائر: ماذا عن الإخوة في زمزم؟
"ليس بين الحركة وزمزم أي خلاف فكري، وكان بالإمكان تطبيق برنامج زمزم من خلال الحركة الإسلامية ودون إيقاع الخلاف معها، وما حصل أوحى أن هناك انشقاقاً أو خلافاً داخل الحركة الإسلامية"
الفلاحات: القائمون على "زمزم" من خيرة الإخوان وممن لهم سابقة فضلى ولا يستطيع أحد أن ينكر سابقتهم وصبرهم واحتمالهم للأذى وحرمانهم من حقوقهم بسبب مواقفهم، هذا لا خلاف عليه إطلاقا. الأخوة يرون أن هناك بعض السلبيات والأخطاء موجودة في تنظيم الإخوان المسلمين "ولا تنظيم يخلو من الأخطاء" لكن العلاج لا يكون بهذه الطريقة، كان من الممكن أن تعالج أخطاء التنظيم بأسلوب آخر، هذا الأسلوب أوحى بأن هناك اختلافاً في الصف الوطني والتنظيم وهذه الفكرة لن تسر إلا أعداء الإسلام وأعداء الأمة وأعداء الأردن ولن تصل بنا إلى تصحيح أخطائنا.
ليس بين الحركة و"زمزم" خلاف فكري ولا غير ذلك، يعتقدون بزمزم أنهم سيتمكنون من الاحتكاك بشرائح مختلفة في المجتمع لا تريد أن تنضوي في تنظيم حزبي وهذا تفكير سليم صحيح، وأرى أن هذا المشروع يمكن تطبيقه وإخراجه على أرض الواقع دون خلاف مع الحركة الإسلامية.
هذا الموقف أوحى أن هناك انشقاقاً أو خلافاً في صفوف الحركة الاسلامية وقد وظف هذا وصور إعلاميا وسياسيا على أنه انشقاق وهنا بؤرة الحدث.
بصائر: بم تنصح الشباب ليكونوا أصحاب خلق دمث في الخلاف؟
"من يريد أن يقدم النصح بصدق فعليه أن يلتزم الأسس السليمة وذلك لا يكون عبر التغريدات والفيسبوك وغيرها من وسائل التواصل التي لا تتكفل بذلك مطلقاً"
الفلاحات: من كانت له رسالة وعنده هم يشغله وعنده أعمال حقيقية ويرى حجم الاستبداد يفترض أن لا يكون لديه وقت يقضيه في الكتابة المتسرعة، التي لم يفكر بها ولم يحسب حسابها. ولا يصح أن يجعل الدعاة أنفسهم كغيرهم من الناس ليس لديهم مشاريع، فإذا انشغل الانسان بعمل حقيقي فستقل فرص إثارة الخلافات، لأنه مشغول لا وقت لديه، لكن الذي لا يعمل ويفرض نفسه حاكماً ومصححاً ويميل لنفسه كثيرا ويعظمها ويمجدها بحيث ينصب نفسه مرشداً وممنهجاً فهذا ليس عامل صاحب ورسالة.
بالعادة لا يتدخل الجند في السياسة إذ إن مهمتهم الحفاظ على الأرض، وكذلك الدعوة تحتاج أن يترك أمر الخلاف فيها لهيئة إدارية مختصة ولا تكون شغل الأفراد الذين لو قالوا ما قالوا لن يغير قولهم أو قرارهم، لتُترك معالجة الأخطاء والمواقف للمعنيين بذلك.
وأضيف إلى أن المعالجة وحل الخلاف لا يكون على الملأ، حتى لو استخدم المرء إحدى وسائل النصيحة الجيدة والعبارات السليمة والوقت المناسب أمام الناس فهذه هي الفضيحة بعينها وهذا لا يقبل به أحد.
فما بالك إن كان المنشور في الملأ ما هو إلا افتراء وكذب واتهام وعداون وإثم، ثم يُنشر على الملأ الذين هم اليوم عبارة عن ملايين الناس.
من يريد أن يقدم النصح بصدق فعليه أن يلتزم الأسس السليمة وذلك لا يكون عبر التغريدات والفيسبوك وغيرها من وسائل التواصل التي لا تتكفل بذلك مطلقاً.