تمثل العملية التربوية الناجحة جوهر الدعوة وروحها، إذ بها تترجم الأفكار والقيم التربوية إلى سلوكيات وتصرفات عملية تعكس قيمة الدعوة وسمو فكرها وشمولية رؤيتها.
فلا قيمة لأفكار الدعوة إذا بقيت رهينة الكتب والخطب والمواعظ، دون تطبيق في واقع الناس، ودون إحساسهم بها.
وهذا الأمر بدوره هو الذي ميّز جماعة الإخوان المسلمين عن غيرها من الحركات الإسلامية، فهي حركة تقوم على تحقيق التغيير بكافة مستوياته، بدءاً من الفرد، مروراً بالمجتمع وحتى سلطة الحكم.
"لم يكن حسن البنا –رحمه الله- مغرماً بتأليف الكتب، بل كان يعلم أن لا قيمة للكتب إن لم يكن لها رجال يحملون فكرها، ويسعون لتطبيقها على أرض الواقع"
لم يكن حسن البنا –رحمه الله- مغرماً بتأليف الكتب، بل كان يعلم أن لا قيمة للكتب إن لم يكن لها رجال يحملون فكرها، ويسعون لتطبيقها على أرض الواقع، وهو الذي أكسب الجماعة رصيداً شعبياً، جعلها تستعصي على الاندثار والمحو عن الخارطة، بل وجعلها الرقم الأصعب الذي يخاف منه كل مستبد وظالم ومحتل، وهو ما جعل للجماعة الكثير من الأعداء الذين يهدفون للانقضاض عليها كل بحسب أسلوبه، كالبطش والاعتقال، أو التشكيك بالمنهج والفكرة، إلى غير ذلك من الأساليب.
المتابعة التربوية وكسر الأمواج..
كما سبق بيانه، فإن الجماعة ولما تمثله من أهمية ولما لها من رصيد شعبي لا يمكن حصره، فإنها كانت وما زالت منذ نشأتها عرضة لمحاولات التشويه والمحو عن الخارطة السياسية والدعوية للشعوب، الأمر الذي يتطلب من الجماعة في كافة الدول برنامجاً تربوياً قوياً، يعنى بترجمة الأفكار على سلوكيات أفراد جدد، بالإضافة إلى المحافظة على الأفراد الحاليين والرقي بهم.
ولا يتأتى تحقيق ذلك، إلا بتربية قوية، وفي نفس الوقت متابعة حثيثة لمنتجات العملية التربوية، حيث يتم وضع اليد على الخلل حال وجوده، وإصلاحه وتجاوز آثاره دون خسائر كبيرة، خصوصاً في ظل هذه المرحلة والتي يتربص فيها الكثير من المتربصين للجماعة وأفرادها.
"والمتابعة التربوية ليست نافلة من القول، بل واجبة على كل مسؤول وقائد، فهي نابعة من قوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته) ومما لا شك فيه أن المسؤولية تكون أكبر على المرء كلما كبرت دائرة مسؤولياته في جسم الدعوة"
والمتابعة التربوية ليست نافلة من القول، بل واجبة على كل مسؤول وقائد، فهي نابعة من قوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته) [متفق عليه]. ومما لا شك فيه أن المسؤولية تكون أكبر على المرء كلما كبرت دائرة مسؤولياته في جسم الدعوة، إذ على قدر عظم المهمة تزداد المسؤولية والمحاسبة، نظراً لخطورة مكانته وأهميته.
وحري بالمسؤولين في الدعوة، أن يستشعروا أهمية ذلك الأمر، بحيث لا تقتصر متابعتهم على الأمور الشكلية فحسب، بل لابد أن يتعدى ذلك إلى المتابعة الشخصية لكل فرد من الأفراد؛ لأن كل فرد يمثل الدعوة أمام الناس، والحفاظ عليه وتقوية تربيته علامة نجاح لمسير الدعوة.
ويكفي أن نشير إلى أن منهج المتابعة منهج سار عليه الأنبياء – عليهم السلام- فها هو سليمان عليه السلام، يتفقد جنده واحداً واحداً، حتى الهدهد لم يغب عن ناظريه ومتابعته رغم كبر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وعدد الجند الهائل من الإنس والجن وغيرهم، لتسطرها الآيات القرآنية في سورة النمل حيث قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [سورة النمل:20-21].
يقول الشيخ السعدي في تفسيره تعليقاً على هذه الآية: (دل هذا على كمال عزمه وحزمه، وحسن تنظيمه لجنوده، وتدبيره بنفسه للأمور الصغار والكبار حتى إن لم يهمل هذا الأمر وهو تفقد الطيور، والنظر هل هي موجودة كلها أم مفقود منها شيء)، ويقول أيضًا رحمه الله: (وإنما تفقد الطير لينظر الحاضر منها والغائب، ولزومها للمراكز والمواضع التي عينها لها).
ونجد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم منهجاً واضحاً للمتابعة التربوية، ويمثل رديفاً للآيات القرآنية التي كانت تعرض الإيمان وما يتعلق به بأكثر من أسلوب، وتحذر من التقصير بها، وتشدد على تحقيق التقوى، وترغب بما يترتب على ذلك من النعيم والأجر.
فها هو أبو هريرة رضي الله عنه، يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئٍ إلا دخل الجنة) [رواه مسلم].
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتقد الصحابة رضي الله عنهم، فهو افتقد امرأة سوداء كانت تخدم في المسجد وحينما علم بوفاتها ذهب إلى قبرها ليصلي عليها.
وقصة تفقد النبي صلى الله عليه وسلم، وسؤاله لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن حاله، وظروف بيته، فيها دلالة على أهمية تفقد الإمام والكبير لأصحابه وسؤاله عما ينزل بهم، وإعانتهم بما تيسر من حال أو مال أو دعاء، وتواضعه صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كما أشار إلى ذلك ابن حجر في فتح الباري.
إن الفرد الذي يشعر بمتابعة قيادته له، ووقوفها إلى جانبه خصوصاً في وقت المحن، تزداد صلته بدعوته، ويصبح أكثر انتماء، ويؤدي في النهاية إلى لحمة الصف وتقويته ومنعته.