رأى الداعية الدكتور عصام البشير أنَّ من أكثر ما يوقع الأمّة في الاختلاف والزّلل هو عدم تحرير مدلول المفاهيم والمصطحات، وخصوصاً ونحن نعيش اليوم عصراً اختلت فيه موازين المفاهيم واضطربت، وفي حديثه عن (رحمة الأمّة)، قال: إنَّ الرّحمة في كلام العرب مشتقة من الرّقة والعطف والإحسان، ورَحِمَه إذا تعطّف عليه، وقد تكون الرّقة بمعنى الإحسان، وقد تكون مجرّدة عنه وقد يجتمعان؛ إذ الرّحمة من صفات الخالق سبحانه وتعالى وتفرّد بها عزّ وجل، ولذا اشتق له اسمان من أسمائه الحسنى وهما الرّحمن والرّحيم. وبيّن أنَّ الرّحمن أعمّ وأشمل، والرّحيم أخصّ، مستدلاً بقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}.
كما أوضح أنَّ الرّحم اشتقت من الرّحمة مستشهداً بقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: ((الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ)).
وفي تحرير مفهوم الأمَّة، قال: إنَّ الأمَّة هي الجماعة التي يجمعها حال ووصف، ومصالح وأمانيّ واحدة، ثمَّ ربط الداعية البشير بين الرّحمة والأمّة، حيث بيّن أنَّ الرّحمة صفة لهذه الأمَّة، قال الله تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}. كما أوضح أنَّ الله تبارك وتعالى خصَّ هذه الأمَّة بأفضل كتاب وهو القرآن الكريم وأفضل رسول وهو خاتم النبيّين محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وبالشهادة على النّاس، وكيف أنَّ الرّحمة كانت هي الدعاء الذي كان يلهج به لسان خير الخلق محمّد عليه الصلاة والسلام: ((يا حيُّ يا قيّومُ برحمتك أستغيث)).
معالم الرّحمة
وأكَّد الداعية البشير في محاضرة له بعنوان (رحمة الأمَّة بين الائتلاف والاختلاف) يوم الخميس الماضي 22/5 بجامع الإمام محمد بن عبد الوهاب في العاصمة القطرية الدوحة أنَّ الرّحمة لها معالم رئيسة في العقيدة والتشريع والقيم، حيث أوضح أنَّ الرّحمة تعدّ معلماً من معالم العقيدة التي بنيت على الفطرة لتملأ القلب سكينة وطمأنينة لتقود بعد ذلك إلى المعرفة، هذه الأخيرة تكون معرفة بأمر الله أي بأحكامه وشرائعه، وقد تكون معرفة بالله أي المعرفة التي تورثُ خشيته وخوفه ورجاءه والأنس بالله سبحانه وتعالى. وبيّن أنَّ مرتبة المعرفة هي جنّة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة).
كما أنَّ الرّحمة تعدّ معلماً من معالم التشريع الرّباني، حيث إنَّ الشرائع والعقوبات بُنيت على الرّحمة، فالتشريعات كلّها فيها زجر وردع وتجبر كسر المجني عليه، كما أنَّ العقوبات رحمة تؤمّن المجتمع في أموالهم وأعراضهم وأنفسهم.
وبيّن البشير أنَّ التشريعات في رحمتها تتعدّى بني الإنسان لتنتقل إلى عالم الحيوانات، وليس ذلك فحسب، فحتى الكون فإنَّه بيننا وبينه الرّحمة، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: ((وهذا أحدٌ وهو جبلٌ يحبّنا ونحبّه)). فهي رحمة للأكوان ورحمة للبيئة، لتنتقل مع الإنسان من منطق التسخير إلى عالم التعمير والتثمير.
والرّحمة في ذلك كلّه ليست قائمة على اللين فقط، وإنّما كانت في بعض الأحيان للزجر والتأديب، فمن غلب عليه اليأس والقنوط جاءته الرّحمة، ومن غلب عليه الكسل والخمول جاءته الرّحمة، وفي ذلك كلّه تتجلّى قيمة الحرية معالم القيم، كما يشير الداعية عصام البشير.
"ليس من لوازم الرّحمة الاتفاق على كل شيء، فالرّحمة أن يعتصم أفراد الأمَّة بالجوامع المشتركة من المحكمات، وأن يسع بعضهم بعضاً في الفروع والخلافيات الثانوية"
الرّحمة في الخلاف
يؤكّد د. البشير أنَّ الأمَّة الإسلامية أمّة مرحومة، وفي المقابل فليس من لوازم الرّحمة الاتفاق على كل شيء، فالرّحمة أن يعتصم أفراد الأمَّة بالجوامع المشتركة من المحكمات، وأن يسع بعضهم بعضاً في الفروع والخلافيات الثانوية. وهنا يشير الداعية البشير إلى قاعدة جليلة دوّنها شيخ الإسلام ابن تيمية تدعو إلى رفع الحرج وحصول التيسير للأمّة عنوانها (يتبّعون الحق ويرحمون الخلق).
وبيّن أنَّ هذه القاعدة من خصائص الأمَّة التي جاءت الشريعة الإسلامية إليها لتضع عليها الإصر والأغلال التي كانت على الأمم قبلهم، وأنْ جمعهم على أصول العقيدة والشريعة والقيم، ومن رحمته بهذا الأمَّة أيضاً أنْ شرع وقوع الاختلاف في فروع الدين؛ فنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية يقتضي فهم نصوصها الوقوع في الاختلاف، كما أنَّ تفاوت البشر في العلم واختلافهم في المزاج الفكري والنفسي يقود إلى الاختلاف في فهم النصوص.
وضرب الدَّاعية البشير أمثلة وصوراً من حياة الصَّحابة رضوان الله عليهم، وبيّن التزاوح النفسي والرّوحي والتكامل العملي الحاصل بينهم في إدارة المسلمين وسياستهم، فهذا حزمُ عمر ولينُ أبي بكر رضي الله عنهما، فلّما ولي عمر عزل خالد بن الوليد، فالحزم مع الحزم يولّد الشدَّة والحرج على الأمَّة، وولّى أبا عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة ليّناً ليجتمع مع حَزْمِ الفاروق، ويتساءل الداعية عصام البشير: وهل ضاقت الأمّة بين رُخَص ابن عبَّاس وعزائم ابنِ عمر رضي الله عنهما؟!
وأوضح أنَّ الاختلاف سنة كونية في الألسن والألوان والعقائد واللهجات والفكر، ومن ثمَّ فإنَّ من ثمرات الاختلاف هو رحمة للأمة للتعارف وبذل المعروف وحصول المعرفة وتبادل التجارب والعلوم.