"يا خليفة رسول الله: أتفر من قدر الله، قال: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله". قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن كانت فيه بيئة المسلمين منارة هدى وتقى وصلاح. مع أن الأجساد كانت تئن ألماً لكن القلوب كانت بيضاء نقية رقيقة مطمئنة بذكر الله. ولربَّ نظرة أو كلمة من ذاك الجيل لكافية أن تحيي القلب بنور الله.
قالها عمر فاراً بنفسه وصحبه من بيئة ملوثة بالموت، إلى بيئة مليئة بالحياة. قالها عمر محصناً المسلمين من مرض الجسد.
أمّا في عصرنا فالمرض أعم وأشد، بل هو مرض عضال، إنه مرض الأرواح وفساد الذمم، حتى استمرأ واستساغ المسلمون المعصية، نعم صحت الأجساد ولكن فسدت القلوب.
لله درك يا عمر إن فساد قلوبنا ومجتمعاتنا لهو أعظم من فساد ذاك الهواء السقيم الذي حصد أرواح المؤمنين.
إن أعظم ما ابتلي به المسلمون في عصرنا الحاضر فساد بيئتهم الأخلاقية والتربوية واستمرائهم المعاصي والذنوب حتى أصبح أصحاب الفضيلة هم الغرباء عن المجتمع، والمصيبة أن هذا الفساد لم يترك مكاناً إلا ودخله: الأسواق والأحياء والمدارس حتى البيوت لم تسلم منه، يقول الدكتور مصطفى السباعي في كتابه هكذا علمتني الحياة: "إلى الله نشكوا ما نبذله من جهد على أولادنا في البيوت تذهب به المدرسة والشارع".
"إنّ فساد البيئة الأخلاقية والتربوية من أكبر المعوقات أمام المربين والدعاة، فكلما بنى المربي في نفوس طلبته فضيلة هدمته البيئة الفاسدة"
إنّ فساد البيئة الأخلاقية والتربوية من أكبر المعوقات أمام المربين والدعاة، فكلما بنى المربي في نفوس طلبته فضيلة هدمته البيئة الفاسدة، يقول الشاعر:
متى يبلـغ البنيان يـوماً تمامه ** إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
فوجب علينا كدعاة ومربين أن نصنع بيئة تربوية جاذبة تكون محضناً للطلبة ودرعا حصيناً لهم من الانحراف كما يقوم الطير بحضانة فراخه حتى تقوى على الطيران ثمّ يطلقها في الجو تذهب حيثما تشاء.
أشكال البيئة التربوية الجاذبة
البيئة التربوية قد تكون بيئة مؤقتة، مثل الاعتكافات، والرحلات الدعوية القصيرة، والملتقيات، والمخيمات ورحلات العمرة وغيرها من الأمثلة، وهي تتسم بتأثير ضخم على المستهدفين، إلا أن هذا التأثير يكون مرهوناً بالوقت، بحيث لا يستمر التأثير طويلاً.
وهناك البيئة التربوية الدائمة، والتي تتمثل بالجمعيات والمدارس، والأندية والمساجد، والمراكز القرآنية وغيرها، وتتميز بوجود تأثير دائم على المستهدفين رغم قلة حجم التأثير اللحظي لها.
ومع ذلك، فإن البيئة التربوية الدائمة رغم قلة تأثيرها اللحظي، إلا أن دوامها يجعل الإنجاز فيها أعظم، وهذا لا يقلل من أثر البيئة التربوية المؤقتة بل هي مطلوبة بين فترة وأخرى، والجمع بين الحسنيين أفضل.
ولكن هذه البيئة التربوية حتى تحقق المطلوب منها لا بد لها من صناعة حاذق ماهر وذلك بسبب قوة البيئة المنافسة وإلا فقد المربي عامل الجذب للطلبة، وهذه الصناعة لها شروط ومواصفات على الصانع أن يلتزم بها :
أولاً: بيئة صالحة ملتزمة بالأخلاق والآداب الإسلامية، والحذر من دعاة المنكر من الطلبة وهنا يظهر دور المربي في مراقبة ومتابعة الجو العام للبيئة التربوية وتنقيته من كل شائبة.
ثانياً: الإبداع في وسائل النشاط المستخدمة داخل هذه البيئة وخاصة فيما يتعلق باهتمامات الطلبة وأضرب أمثلة على هذه الوسائل في عصرنا الحاضر:
- الأجهزة والألعاب الإلكترونية المتنوعة والمختلفة.
- الألعاب الرياضية ومعداتها من ملاعب وغيرها.
- مواكبة التطور الموجود على الساحة في هذا المجال وباستمرار؛ لقوة المنافسة من البيئة الفاسدة.
ثالثاً: البيئة الآمنة: وأعني بها اللافتة التي ينضوي تحتها العمل التربوي دون مخالفة للقوانين المعمول بها داخل الدولة فيقلل من خوف أولياء الأمور.
رابعاً: التخطيط والإعداد القوي للفعاليات والأنشطة المقامة داخل البيئة التربوية بحيث يظهر التميز والإبداع عن البيئة الفاسدة.
خامساً: قلة التكلفة المالية على الطلبة في الفعاليات والأنشطة؛ لأن الهدف ليس الربح المادي وإنما تغطية جزء من التكاليف، في حين أن الربح هو الهدف في البيئات الفاسدة.
سادساً: شيوع الرحمة والمحبة والأخوة داخل البيئة التربوية، مما يقوي العلاقة بين المربي وطلبته ويزيد من تماسك الطلبة، وعدم نفورهم عن المربين.
سابعاً: تحقيق الفائدة للطلبة وخاصة فيما يتعلق بالبناء الذاتي لهم وحل مشاكلهم والمشاركة الاجتماعية لهم في مناسباتهم، والتواصل الإيجابي مع أهاليهم.
وبناء على ما سبق، فإذا تحققت هذه الشروط في البيئة التربوية فإن المربي يحصل على عدة فوائد، منها:
- التقليل من تأثير البيئة الفاسدة على الطلبة.
- جذب عدد أكبر من الطلبة للعمل التربوي.
- تسهيل مهمة المربي في زرع القيم والمبادئ السامية في نفوس الطلبة.
- إشاعة الخير والمعروف في المجتمع.
وللتدليل على ما سبق، فإذا نظرنا إلى سيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم – فإننا نجد استخدامه البيئة التربوية مختلفاً في المرحلة المكية والمدنية، ففي المرحلة المكية كانت متمثلة بدار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كانت ملتقى الثلة الأولين من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وفيها تربوا على منهج الاسلام وكان المربي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما في المرحلة المدنية فإن خير مثال على ذلك حرصه – صلى الله عليه وسلم - على بناء المسجد النبوي ومن ثم إنشاء سوق للمسلمين، وإن كان بناء السوق فيه هدف اقتصادي، لكن ذلك لا ينفي الهدف الأخلاقي والتربوي المتمثل بالالتزام بأحكام الإسلام في البيع والشراء وغيره.
"إنشاء البيئة التربوية ليس معناه انعزال المسلم عن محيطه وواقعه، بل النهوض به حتى ينتقل من مرحلة التأثر إلى مرحلة التأثير"
ختاماً، إن إنشاء البيئة التربوية ليس معناه انعزال المسلم عن محيطه وواقعه، بل النهوض به حتى ينتقل من مرحلة التأثر إلى مرحلة التأثير، ورسول الله – صلى الله عليه وسلّم – يقول: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم".
إن ايجاد المحاضن التربوية وتنوعها واختلاف أساليبها من أعظم الوسائل التي تعيد للمسلمين بيئتهم المفقودة "بيئة القلوب والأرواح الطاهرة " فنكون ثلة من الآخرين.