جاء في القصة الشهيرة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيحي البخاري ومسلم، عن الثلاثة الذين أجاءهم المطر إلى (الغار)؛ فلما أطبقت عليهم الصخرة، وأيقنوا بالهلاك، تعلقت آمالهم بالله العلي القدير، الذي لا تخفى عليه الخوافي، ويعلم ما دق وصغر، وتوجهوا إليه بطريقة أشبه ما تكون بالغريبة والمدهشة، وهي (يد لنا عندك يا رب؛ فكافئنا بها)، فليدعُ كل واحد منا بعمل أخلص فيه لوجه الله تعالى.
وهنا تبلى السرائر، ويخرج من الأستار ما كان مختفياً طوال هذا الزمن، وعلاه غبار الدهر والطي والنسيان. هنا يجب أن تنقدح الذاكرة، وتُحَدُّ جيداً، فالأمر جلل، وليس بالهين اليسير، وهو هنا حياة أو موت، وهنا تتجلى رهبة الموقف مع رجاء القلب مع شفقة الخيبة والرجوع بلا شي.
تنحسر الأذهان والعقول فقط فيما عملت، ويبدو أن العمل سهل وكثير، ولما كان يجب الإخلاص فيه، كانت النتائج محدودة معدودة، ولما كان الناقد البصير هو رب العالمين، صعب على اللسان التمني ووجب على القلب التأني، التأني في إخراج النتيجة أو هذا العمل، لأنه سيعرضه أمام العليم الخبير، العليم بالنوايا، الخبير بخلقه وشؤونهم، وهنا تكمن قوة التحدي.
"إذا أردت رفقة؛ فاخترها بعناية، فلو كان أحد الثلاثة خارج السياق أو خارج هذا السرب، لما فتحت عليهم، فإياك من رفقة قد لا تجد في قلوبهم إخلاصاً؛ فما يدريك لعلهم يكونوا رفقاءك في الغار من جديد"
والقلب يخفق وجلا متردداً، لأنه لو فرجت عن اثنين، وجلس الثالث يندب حظه، لما نفع الثلاثة إخلاصُ الاثنين، لذلك كان لا بد من ثلاثة قلوب مخلصة تتوجه بإخلاص جديد، لتتم المعادلة، معادلة الحَسَن المقدم بشكل حسن.
أما اللفتة الأولى لك، فإذا أردت رفقة؛ فاخترها بعناية، فلو كان أحد الثلاثة خارج السياق أو خارج هذا السرب، لما فتحت عليهم، فإياك من رفقة قد لا تجد في قلوبهم إخلاصاً؛ فما يدريك لعلهم يكونوا رفقاءك في الغار من جديد.
والأهم من ذلك؛ هو: تخيل معي أنك (أنت) كنت (رابعَ من في الغار)، وفتحت الصخرة بعد دعائهم فتحاً لا يمكنهم الخروج منه، وقالوا لك: جاء الآن دورك. واقتربت ساعة الفتح، لم يعد بيننا وبين الخروج إلا دعوة صادقة منك، أنت اليوم فرجنا وأنت اليوم مفتاحنا، ادع الله كي يفرج عنا ما نحن فيه، ادع الله بأخلص عمل عملته في حياتك، عمل يستحق أن تقدمه لله كـ (يد هي لك عند الله)، فيكافئك الله بها فيفتح عليكم الغار به. وإن لم تفعل، فاعلم أننا هلكنا وهلكت معنا، بل أنت سبب هلاكنا، يا هذا تقدم الآن وتوجه بقلب صادق واستذكر عملا عملته لله بإخلاص، تقدم وقدِّمه لله بدعوة صادقة حتى نخرج كلنا من هذا الغار.
"اليوم أنت حر طليق، لكنك قد تكون يوما أسيراً لغار أنت لا تعرف كنهه وماهيته، لربما احتجت هذا العمل عند موتك أو في قبرك أو يوم القيامة، فإذا أطبقت الصخرة يوماً فلن ينفعك إلا عملك"
ولنعد بالزمن لحظة إلى حيث هذه اللحظة، إلى حيث أنت في مكانك ولست في الغار، الفرصة الآن قد أتيحت لك من جديد، والفرج ستصنعه أنت من جديد، اجلس وفكر بل وتفكر، وابحث في أركان قلبك جيداً، وانظر هل هناك عمل ستقدمه لله على طبق الإخلاص، هل وجدت مفتاح خروجك من هذا الغار؟
اليوم أنت حر طليق، لكنك قد تكون يوما أسيراً لغار أنت لا تعرف كنهه وماهيته، لعل غارك يكون يوماً مرضاً أو ابتلاءً أو فقدان حبيب أو قريب، لعل غارك يكون دَيْناً أثقلك، أو هماً أحاط بك وأطبق عليك، لعله يكون غاراً من جديد، لا تدري، ولا تعلم، لربما احتجت هذا العمل عند موتك أو في قبرك أو يوم القيامة، فإذا أطبقت الصخرة يوماً فلن ينفعك إلا عملك.
يا عبد الله، اليوم أنت حر طليق فقدم لله بإخلاص ما ينفعك ساعة الشدة، اجعل دوما بينك وبين الله سراً لا يطلع عليه قريب ولا بعيد، صغر العمل أم كبر، فكم من عمل صغير كبرته نية صاحبه، أغلق أبواب الرياء كلها عن قلبك، توجه بقلبك إلى ربك، فالرحمن لا ينظر إلى العمل، ولكن ينظر إلى قلب صاحب العمل.
يا عبد الله، اليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل.
واستمع لقوله تعالى: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [الملك:2]، الله يريد منك العمل الأحسن لا العمل الأكثر، فتفطن جيداً لنوع عملك لا لكمه، فأول من تسعر فيهم النار شهيد وعالم ومنفق، خالطت أعمالهم شوائب الرياء، فأثاب الله عملهم بالنار.
تفكر الآن وانظر أي الأعمال تقدمها لله وأنت مخلص فيها، وابتعد عن مواطن مظنة الرياء ورؤية الناس لك وحبك مدحهم إياك، فإنها حارقة للحسنات مذهبة للأجر إن دخل للنفس منها شيء وحب.
واسمع ما حصل مع الجنيد بعد أن توفاه الله عز وجل؛ فعن جَعْفَرَ الْخُلْدِيَّ ، يقول: رَأَيْتُ الْجُنَيْدَ فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ: طَاحَتْ تِلْكَ الإِشاراتُ، وَعَايَنَتْ تِلْكَ الْعِبارَاتُ، وَفَنِيَتْ تِلْكَ الْعلومُ، وَنَفَدَتْ تِلْكَ الرُّسُومُ، وَمَا نَفَعَنا إِلا رَكَعَات كُنَّا نَرْكَعُها عِنْدَ السَّحَرِ.
يا ترى، لو كنت الآن رابع من في الغار هل سيملك قلبك مفتاح هذا الغار؟
أم أن هذا الغار سيكون أسوار معاصيك والتي تحيط بك من كل مكان وجانب؟
هل ستملك مفتاح النجاة لك ولرفقتك؟ أم أنك ستكون هلاكهم وهلاكك؟
أخي الداعية؛ إذا لم تجد الآن عملا فاعلم أنك على خطر، وأنك لا زلت تقبع في غار معاصيك.