في ظل الابتلاء الكبير الراهن لأبناء الأمة المسلمة، وبخاصة أبناء المشروع الإسلامي، مع تكالب قوى الاستكبار العالمي والفساد والاستبداد الداخلي عليهم، بعد انتصارهم الكبير في معركة الربيع العربي؛ بِتنا كثيرًا ما نسمع بعض الشباب الحركي الصحوي، يتذمَّر ويتأفَّفن ويتكلم عن أسباب "الهزيمة"، و"تأخُّر النصر"، وما إلى ذلك مما هو بالرغم من كونه أمرًا مذمومًا؛ فهو طبيعي في مثل هذه الأحوال، التي تشتد فيها المحن والابتلاءات، وسبقنا إليها أفضل الخلق بعد محمد "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
وهو ما وثَّقه القرآن الكريم في أكثر من موضع، من بينها سُورة "الأحزاب"؛ حيث قال الله تعالى: "إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)".
وهذه الأحوال النفسية التي يمر بها الكثيرون من الشباب الإسلامي في المرحلة الراهنة، توجب وقفة مع سنن التمكين التي وضعها رب العِزَّة سبحانه وتعالى، ولا يمكن تجاوزها بحال، ولو فهموها لارتاحت النفوس وهدأت الأرواح القلقة.
يقول ربُّ العِزَّة سبحانه: "وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" [سُورة "الصَّفِّ"- مِن الآية 8]، ويقول عز وجل أيضًا: "وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" [سُورة "التَّوْبة"- مِن الآية 32]..
ويقول الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، في حديث خباب بن الأرت "رَضِيَ اللهُ عَنْه": "كان الرجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" [صحيح/ أخرجه البُخاري]..
في هاتَيْن الآيتَيْن، وفي هذا الحديث النبوي الشريف، معنيان شديدا الأهمية لو أدركهما المسلمون؛ ما أثاروا الأسئلة خلال المراحل الطويلة التي تنتظرهم من أجل التمكين، ولوثقوا في أن نصر الله تعالى آتٍ لا محالة.
المعنى الأول هو حتمية النصر الإلهي، وأن تمكين الإسلام في الأرض، سُنَّة ربانية لا مَحِيد عنها، وتؤكده النصوص السابقة، أما المعنى الثاني، وهو الذي جاء به الحديث الشريف، فهو أن الصبر والتضحية، هما من أهم مفاتيح النصر.
"التأخير في النصر، يأتي من حكمة بالغة لله عز وجل، من أجل اختبار وتمحيص عباده، ومعرفة المؤمنين والصابرين منهم، الذين يستحقون الجنة"
وهذا المعنى الأخير، أكدت عليه أكثر من آية من آيات القرآن الكريم؛ من أنه بالرغم من حتمية النصر والتمكين الألهيَّيْن لدين الله؛ فإنه هذا لا يجب معه الركون من جانب بني آدم، وإنما من الواجب على المسلمين المؤمنين العمل على تحقيقه، والسعي إلى نشر دين الله تعالى في مختلف ربوع الأرض، وأنهم يجب عليهم في سبيل ذلك، تحمل المشاق والعنت الشديدَيْن.
وفي ذلك، كما ورد في أكثر من موضع من القرآن الكريم، تمحيص للناس، واختبار لهم، وكشف حقيقتهم، وهو قضاء فرضه الله تعالى عليهم؛ لا يمكن لمن أسلم مع أنبياء الله عز وجل، أن يدخلوا الجنة، وينالوا الجزاء الحسن، من دونه.
فيقول الله تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)" [سُورة "البقرة"]، ويقول أيضًا: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)" [سُورة "آل عمران"].
والجهاد، الذي هو ذروة سنام الإسلام، هو أحد أهم مرادات الله تعالى من عباده المؤمنين، والولاء لله تعالى، ولرسوله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وللمؤمنين، فيقول الله تعالى في سُورة "التَّوْبَة": "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)".
فالتأخير إذن في النصر، يأتي من حكمة بالغة لله عز وجل، من أجل اختبار وتمحيص عباده، ومعرفة- وعلمه سابق بطبيعة الحال- المؤمنين والصابرين منهم، الذين يستحقون الجنة.
في المقابل؛ فإن الاستعجال ورد في القرآن الكريم في أكثر من موضع، كانت بمعنى الذم في غالبية الأحوال، أو صفة للكافرين والمنافقين، كما يقول الدكتور راغب السرجاني، كما جاء في سُورة "ص"، على سبيل المثال، فيقول عز وجل: "وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)"، وعندما جاء خلال الحديث عن المؤمنين، جاء بمعنى النهي، في قوله تعالى لنبيه الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم": "وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ" [سُورة "طه"- من الآية 114].
والخطير في الأمر، فيما يردده بعض الشباب من أبناء محنة الجيل الحالي، حول تأخُّر النصر وما إلى ذلك؛ أن هذه الحالة، ما يرافقها من مشاعر سلبية، تتضاد مع سنن وقوانين رب العِزَّة التي أقرها لخلقه وفي خلقه، وهو ما يعني الخسران المبين؛ لأن تحدي القوانين الربانية مآله الهلاك، وهي لا تتغير ولا تتبدل.
ولنا في أنبياء الله تعالى أسوة طيبة في هذا الأمر؛ فهذا سيدنا نوح "عليه السَّلامُ"، وهو من أولي العزم من الرسل، لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين، ولم يؤمن معه إلا قليل، وموسى "عليه السَّلامُ"، مات ولم يدخل فلسطين، الأرض التي وعدها الله عز وجل لبني إسرائيل، وهم على إيمانهم بعد، بل إن مِن أنبياء الله تعالى، مَن سوف يبعث يوم القيامة، وليس معه من آمن من قومه، سوى فرد أو اثنين، وبعضهم سيأتي وحده، وقد كُذِّب من قومه أجمعين.
ونختم بمقولة لصاحب الظلال، سيد قطب "رحمه الله"، في هذا الأمر، يقول فيها: "لابد من فدية.. لابد من بلاء.. لابد من امتحان، لأن النصرَ الرخيص لا يبقى، لأن النصرَ السهلَ لا يعيش، لأن الدعوة الهينة يتبناها كل ضعيف، أما الدعوة العفية الصعبة فلا يتبناها إلا الأقوياء، ولا يقدر عليها إلا الأشداء".