الانفكاك من الشأن العام وواجبات الدعاة في أوقات الأزمات

الرئيسية » بصائر الفكر » الانفكاك من الشأن العام وواجبات الدعاة في أوقات الأزمات
images (1)

عن حذيفة "رَضِيَ اللهُ عَنْه"، عن النبي "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، أنه قال: "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" [أخرجه الحاكم في المستدرك والطبراني في المعجم الأوسط].. هذا الهدي النبوي الشريف يدلنا على أمر شديد الأهمية، غاب عن ظهرانيي المسلمين في المرحلة الراهنة، بما في ذلك الكثيرون في الحقل الدعوي، وهو الانشغال بالهم العام.

وتُعتبر قضية الانشغال بالهم العام من بين أهم أركان شخصية الإنسان المسلم، وهو في أحد أهم جوانبه، يخص قضية الإيجابية الغائبة بدورها عن العمل العام في المجتمعات العربية والإسلامية، وكذلك عن السمات الشخصية للكثير من المسلمين.

ويخالف ذلك صحيح فِعل الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وهو لنا القدوة الحسنة.

وهناك العديد من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد هذا المعنى، فيقول الله تعالى: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ" [سُورة التَّوْبة:71].

وفي هذه الآية يقول العلماء والمفسرون، إنها تعني أن قلوب المؤمنين والمؤمنات تكون متحدة في التواد والتحاب والتعاطف، بسبب ما جمعهم من أمر الدين وضمهم من الإيمان بالله، وهو ما يستتبع منهم المعونة والنصرة لبعضهم البعض.

ويقول الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا. ثم شبك بين أصابعه" [متفق عليه].

ويقول أيضًا في حديثه الشهير: "مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [أخرجه مسلم].

ورابطة الدين، هي أقوى الروابط التي تجمع ما بين الإنسان وأخيه الإنسان، وهي حتى أقوى من رابطة الدم، وبالتالي، فهي أقوى من مختلف الروابط الأخرى.

ويرتب ذلك العديد من الأمور على المسلم إزاء أخيه المسلم، وعلى رأسها واجب النصرة ورفع الظلم ودفع الاعتداء عن المسلمين، أفراد وجماعات.

ويقول الدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي في هذا، إنه حين تستقر حقيقة الإيمان في القلب، تنبعث انفعالاته المختلفة؛ حبًّا، وبُغضًا، فرحًا، وحزنًا، تبعًا لتلك الحقيقة، وتتفاوت قوةً وضعفًا بقدر ما يقوم فيه من حقائق الإيمان، ومن أعظم حقائق الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله، بل هي أوثق عُرى الإيمان.

وكان الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، أكثر الناس اهتمامًا بشؤون المسلمين، وهناك الكثير من المواقف التي توضح ذلك من سيرته الشريفة، ومن بينها موقفه عندما رأى قومًا من مُضَر وعليهم علامات الفقر، فصعد المنبر ودعا المسلمين إلى التصدق عليهم.

وكان "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، يدعو للمسلمين المستضعفين في مكة المكرمة؛ أن يحفظهم وينجيهم من إيذاء المشركين وإيذائهم لهم.

"الانفكاك من الشأن العام، وخصوصًا في أوقات الأزمة والشدائد؛ من كل القادرين على القيام بأي عمل؛ يُعتبر خيانة للدين وللوطن، وخيانة من الإنسان لنفسه، ولجماعة المسلمين التي يعيش فيها"

ويظن البعض أن هذا ترف اجتماعي، أو يتعلق بأمور الحياة اليومية للمسلمين، وعلاقاتهم البينية كأفراد في إطار المجتمع المسلم، ولكن في حقيقة الأمر؛ فإن هذا الأمر هو أحد أخطر الأمور التي تُعرَض على الدعاة وقادة السياسة والفكر في مجتمعات المسلمين، ويجب عليهم غرسها في نفوس عوام المسلمين.

بداية، فإن هذه الرابطة لا تنفصم، في الدنيا والآخرة، فكل الروابط بين البشر تنفصم إلا رابطة الدين والإيمان، فربما يكون الإنسان مسلمًا وأخيه كافرًا؛ فيفترقان في الآخرة، وقد يكون أحدهما على سفرٍ طويل؛ فلا يلتقيان في الدنيا.. شركاء المال يفترقون ويتشاكسون "الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ" [سُورة الزُّخْرُف:67].

وتمر الأمة المسلمة، بعد انهيار دولة الخلافة الإسلامية في عشرينيات القرن العشرين الميلادي، بالعديد من المخاطر التي وصلت إلى حد استهدافها في يقينها الإيماني ومكونها الأخلاقي، وفصم عُرى العلاقات التي جمعت طيلة مئات السنين بين المسلمين، مهما اختلفت نحلهم وأعراقهم وألسنتهم، بعد أن جمعت بينهم عقيدة التوحيد، وقواعد الشريعة التي ارتضاها لهم الله عز وجل، ومنظومة الأخلاق الإسلامية، ولغة القرآن الكريم.

وفي وقتنا الراهن، تسيطر الدولة القومية، وتفرض العديد من الاعتبارات السياسية والأمنية، على حركة الأفراد من مواطنيها ومواطني الدول الأخرى.

ومع التعقيدات السياسية والأمنية التي فرضتها البيئة السياسية الإقليمية والدولية، إلى قصور كبير في تضامن المسلمين وبعضهم البعض، بالرغم من الهجمة الشرسة التي يواجهونها في كل مكان من قوى الاستكبار والاستعمار العالمية، ومن الأنظمة التي لا تدين بدين الله، مع انشغال- كذلك- المسلمين بمشكلاتهم الذاتية التي أسس لها أعداء الأمة.

وهو واقع قائم في أماكن كثيرة يوجد فيها مسلمون حول العالم؛ حيث يواجهون العديد من صور وألوان الاضطهاد، كما في بورما، وفي تايلاند، فيم المسلمون في الدول التي يشكلون فيها أغلبية غير قادرين على نصرتهم وتوجيه ألوان الدعم لهم.

حتى في بعض الدول التي يوجد فيها أغلبية مسلمة؛ قد تعمد أنظمة الفساد والاستبداد إلى اضطهاد الفئات التي تدعو إلى الإصلاح من بين ظهرانيي شعوبها، وغالبًا ما يكون على رأس هؤلاء طليعة تتبنى المشروع الحضاري الإسلامي، كما حدث في كثير من الدول العربية منذ الخمسينيات وحتى الآن.

ولا يقتصر الأمر على هذه الجبهات؛ حيث يمتد ذلك إلى جوانب مجتمعية شديدة الأهمية في تحديد صيرورات تقدُّم المجتمعات المسلمة من عدمه، ونشير في هذا الإطار إلى مشكلة السلبية التي انتشرت حتى في أوساط الدعاة والمصلحين، ممن هم مفترض فيهم أن يقودوا قاطرة المجتمعات الإسلامية.

وغني عن القول أن خيرية هذه الأمة مرتبطة بجوانبها الحركية، وبالتالي بانتشار سِمة الإيجابية بين المسلمين.. يقول تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)" [سُورة "آل عمران"].

وعندما نقول إن الإيجابية هي من بين أهم سمات الداعية والمصلِح الناجح؛ فإن السلبية-بالتبعية- هي من بين أهم أمراض العمل الدعوي والحركي السياسي والمجتمعي.

والإيجابية تعني الانشغال بالشأن الخاص والعام على حدٍ سواء، وتعني انغماس رموز وطليعة المجتمع المسلم في العمل الجاد الذي يتجاوز الأمور الذاتية، وحتى انشغالاتهم بأمور مجتمعاتهم المحلية ودوائر حركتهم الصغرى.

وتقاعُس الدعاة والحركيين عن أداء هذا الدور له العديد من الآثار السلبية؛ أولها حرمان المجتمع المسلم من المعرفة والقيم والأفكار، وكذلك الثمرات المادية والمعنوية، التي من المفترض على الدعاة والمصلحين الحركيين، غرسها في المجتمع المسلم، من أول دعم الجانب الأخلاقي والقيمي، ووصولاً إلى قضية الإصلاح والنهضة، والعمل على تطوير المجتمع المسلم، واستعادة دور الأمة الحضاري.

الأثر الثاني، أن التقاعس عن الاهتمام بالشأن العام، وما يتطلبه ذلك من حراك دعوي وسياسي وفكري، وكذا؛ يسمح -في المقابل- للأفكار الهدامة بالانتشار وأخذ مجالٍ واسعٍ للتمدد داخل المجتمع المسلم، مثل الأفكار التغريبية، وانتشار الإباحية.

وتزداد أهمية وإلحاحية ذلك، في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به المسلمون، أفرادًا وجماعات، وأمة وحضارة.

وفي هذا الإطار، نتأكد أن الانفكاك من الشأن العام، والهم العام، وخصوصًا في أوقات الأزمة والشدائد؛ من كل القادرين على القيام بأي عمل؛ يُعتبر خيانة.. خيانة للدين وللوطن، وخيانة من الإنسان لنفسه، ولجماعة المسلمين التي يعيش فيها.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

كيف قاد النبي ﷺ جيشه إلى النصر؟

لم يكن النبي ﷺ قائداً عسكرياً تقليدياً تلقى تعليمه في أكاديميات الحرب، لكنه كان خير …