التدين المغشوش .. إشارة لتفسير حالة التناقض

الرئيسية » خواطر تربوية » التدين المغشوش .. إشارة لتفسير حالة التناقض
view_1368815435

لقد خلق الإنسان وجعله متنوعاً مختلفاً، تجتمع فيه النقائض، كثير التقلبات، ممكنُ التلوّن والتحول، جسد وحاجات، عقل وفكرة وآراء، قلب وعاطفة، ومن غريب هذا الإنسان أنه ظاهر وباطن؛ له مظهر وله جوهر، قد يلتقيان، وقد يختلفان، والأعجب أنهما قد يتناقضان.

ولطالما كان التركيز والحُكم على الجوهر الحقيقي لا على المظهر الذي قد يكون زائفاً ولا يعكس حقيقة الجوهر، حتى أن الله عز وجل سيحاسبنا على نياتنا وعلى دواخلنا لا على مظاهرنا، ومن هنا كان قوله عليه الصلاة والسلام: "وإنما لكل امرئ ما نوى" فنصيبه من الحساب والأجر بقدر نيته، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"، وقد صوب الله للأعراب مفهوهم عن التدين والإيمان بأنه بالقول وإنما هو حقيقة تكمن في القلب؛ قال تعالى: {قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}.

لا يمكنك في يوم من الأيام أن تعرف جوهر إنسان إلا بعد معايشته ومعاملته في المواقف خاصة الصعبة منها؛ فعند الشدائد تظهر معادن الرجال

ولا يمكنك في يوم من الأيام أن تعرف جوهر إنسان إلا بعد معايشته ومعاملته في المواقف خاصة الصعبة منها؛ فعند الشدائد تظهر معادن الرجال.
ومن هذه المظاهر الخادعة التي أصبحت ظواهر منتشرة خاصة في المجتمع الدعوي مظهر "التدين المخادع" أو "التدين المغشوش" وبغض النظر هل هو بغير قصد أم هو مقصود مع سبق الإصرار والترصد.

اليوم وبعد تطور وسائل الاتصال وعالم التكنولوجيا أصبح من السهل الظهور بهذه المظاهر الخادعة؛ فتجد أحدهم يكثر من ذكر عباداته وطاعاته وبصور مختلفة عبر مواقع التواصل فمن عبارة "الصلاة يرحمكم الله" إلى قوله "ولقيام الليل لذة لا يعرفها المحرومون" وما بين جنبات الحرمين صورة احترافية لشاب يرفع يديه إلى السماء بالدعاء بمظهر من مظاهر الخشوع والتبتل، عداك عن الخواطر "الإيمانية" أو التسجيلات الصوتية لبعض العبارات الرنانة والتي ينشرها فقط لجمع الإعجابات عبر مواقع التواصل، وكلما ازداد انتشار صوره ومقاطعه والتعليق عليها زاد فرحا بها وكأنه حقق أجره من الله رب العالمين.

وفي الحقيقة كل ذلك مظهر "خادع" أو "مخادع"، ولقد حدثني أحدهم قائلاً: "في شهر رمضان المنصرم كنت أتابع وزوجتي ما يحدث في مصر وقلوبنا ترحل كل ليلة لتحلق في سماء رابعة العدوية فوق المرابطين هناك، إلا أنني تفاجأت بزوجتي والتي لم يمضِ على زواجي منها الكثير، تفاجأت بأنها كانت تكتب وتنظّر عن الصمود وعن التضحية وتمتدح عبادات المرابطين هناك في رابعة، كانت تكتب وكأنها تملي على أهل رابعة ما يجب أن يفعلوا، زوجتي ممن يحسب على الدعاة والملتزمين وذوات الفكر الإسلامي والزي الإسلامي، إلا أن الغريب أنها كانت تطرب لصلاة تراويحهم وقراءة القرآن فيها إلا أنها لم تفتح المصحف طوال الشهر، كنت أخرج للتراويح وأعود وهي لا تزال جالسة أمام شاشتها لم تقم لصلاة أو لقرآن، بل إنها تقوم تصلي العشاء والعشاء فقط قبيل نومها بلحظات، وكأن كلامنا الخالي من الحقيقة المتمثل فقط بالمظهر هو التدين".

التدين ليس كلاما أو كتابة، وليس مظهرا تضحك به على الآخرين، بل التدين يكمن في المعاملة، التدين مظهر وسلوك، قول وفعل، عبادة وتوجه

إن التدين ليس كلاما أو كتابة، ليس مظهرا تضحك به على الآخرين بل ربما استفاد صاحب هذا المظهر منه أمام الآخرين، فكم من شخص تزوج فتاة لأنه رأى مظهرها بأنها ملتزمة ومتدينة، وكم من فتاة تعلقت بشاب فقط لكثرة ذهابه للمسجد وطول لحيته، وكم من شخص أقرض شخصا دون ضمانات أو تقييد فقط لأنه يعرف عنه تدينا ظاهراً باديا على شكله الخارجي.

إن التدين يكمن في المعاملة، التدين مظهر وسلوك، قول وفعل، عبادة وتوجه، وليس كلاما أو مظهراً فقط.
ولقد أكد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أن الله عز وجل لا ينظر إلى أجسامنا وصورنا، ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا حيث تكمن حقيقتنا وجوهرنا، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم).

وكان من صنيع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه إذا جاءه شاهد يشهد في قضية ما عن شخص آخر فإنه يتبين منه عن حقيقة هذا الرجل، وكيف يميز الرجال بعضهم بعضا ولا ينخدعوا بمظهر من مظاهر العبادة، فعن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه أنَّه حين جاء شاهد يشهد عنده فقال له عمر: ائتِ بمن يعرِّفك؛ فجاء برجل، فقال له: هل تزكِّيه؟ هل عرفته؟ قال: نعم، فقال عمر: وكيف عرفته؟ هل جاورته المجاورة التي تعرف بها مدخله ومخرجه؟ قال: لا؛ قال عمر: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين تعرف بهما أمانة الرجال؟ قال: لا؛ فقال: هل سافرت معه السفر الذي يكشف عن أخلاق الرجال؟ قال: لا، فقال عمر بن الخطَّاب: فعلَّك رأيته في المسجد راكعاً ساجداً، فجئت تزكِّيه؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ فقال له عمر بن الخطاب: اذهب فأنت لا تعرفه، ويا رجل ائتني برجل يعرفك فهذا لا يعرفك.

هكذا حدد عمر بن الخطاب معايير التزكية الحقيقية التي نشهد بها للناس ولا نكتفي بمظهر من هذه المظاهر حتى وإن كانت هذه المظاهر صلاة وصياما وعمرة وحجاً، حقيقة الإنسان في جوهره وتعامله وبحسن خلقه والمظاهر الخارجية ما هي إلا قرائن لحسن سجية هذا الإنسان، وهي ثمرة حقيقة لحسن الجوهر، فإذا صلح الجوهر فبالضرورة أن يصلح المظهر وليس العكس.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …