العبد بين وعد الله بالمغفرة والفضل ووعد الشيطان بالفقر!

الرئيسية » خواطر تربوية » العبد بين وعد الله بالمغفرة والفضل ووعد الشيطان بالفقر!
faqr

يقول الله تعالى في محكم التنزيل: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)" [سُورة "البقرة"].. هذه الآية تلخص الاختيارات التي وضعها الله عز وجل أمام عباده من الخلق في حياتهم الدنيا، وجعل لهم- تبارك وتعالى- الحرية في الاختيار؛ فكيف يكون؟!..

باعث الحديث، ما انتشر في الآونة الأخيرة في الكثير من المجتمعات العربية، بعد الفوضى التي سببتها سياسات الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، وقوى التدافع التي وقفت أمام ربيع ثورات الشعوب العربية، من تيارات إلحادية وعلمانية، بدأت في نفث سمومها بين ظهرانيي هذه المجتمعات؛ طارحةً نقاشات لم تكن لتطرحها لو كان قد تم التمكين للتيار الإسلامي، الذي حمل طيلة العقود الماضية العبء الأساسي في مسيرة الإصلاح والنهضة في العالم العربي والإسلامي.

قادت الحرب ضد التيار الإسلامي ومشروعه الحضاري، إلى مواجهة شعواء ضد الدين والتدين، من جانب أعداء المشروع الصحوي؛ فأتاح ذلك للكثير من الأصوات الإلحادية والعلمانية، الخوض في أمور عقيدية عديدة، تمس صميم فكرة الإيمان والكفر.

ومن بين هذه القضايا سعي الإنسان في الحياة الدنيا، ما بين الخير والشر، مع ذهاب بعضهم إلى القول إن متاعب البشر ومعاناتهم في هذه الدنيا منسوبة إلى الله عز وجل، وأقداره، في غياب كامل لفهم القوانين التي وضعها الله سبحانه وتعالى في خلقه، وطبيعة الخير والشر، والفارق بين وعد الله الحق، وبين وعد الشيطان الرجيم، في هذه الدنيا.

"لابد من الإيمان بأن أقدار الله تعالى كلها خير، وأن الله عز وجل لا يقضي سوى بالخير لعباده وما فيه صلاح حال هذه الدنيا"

بدايةً من صميم العقيدة، وصحيح العقل الإنساني الراجل، الإيمان بأن أقدار الله تعالى كلها خير، وأن الله عز وجل لا يقضي سوى بالخير لعباده وما فيه صلاح حال هذه الدنيا، وضمان استوائها بالصورة التي أرادها الله عز وجل، وشاءتها إرادته، حتى تنتهي، ويأتي يوم الحساب.

وأقدار الله سبحانه وتعالى غالبة، وأن الإنسان في هذه الحياة الدنيا لا يملك من أمر نفسه شيئًا، إلا أن يشاء الله عز وجل، فيقول في كتابه العزيز: "قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" [سُورة "الأعراف"- الآية 188].

ومن ثَمَّ؛ فقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تضع بين ظهرانيي البشر، سُنَّةً مهمة، وهي سُنَّة الابتلاء الإلهي للعبد، للتمحيص، وللتمييز بين الصادقين والكاذبين من عباده.. "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ" [سُورة "الأنبياء"- من الآية 35]، والخطاب في هذه الآية عام، أي يخص عموم البشر؛ لأن الجملة الأولى فيها هي "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ"؛ فتكون الآية: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)".

ويقول عز وجل في ذلك أيضًا: "الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)" [سُورة "العنكبوت"]، وما على العبد إلا القبول والتسليم.

والابتلاء يكون دائمًا في صالح المؤمن؛ تكفيرًا لذنوبه، واختبارًا لإيمانه.. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)" [سُورة "البقرة"]؛ فما عليه عندئذٍ سوى الصبر، وتقوية صلته بربه، وهي من الأهداف الأساسية للابتلاء.

وفي الهدي النبوي، يقول الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "إنَّ عِظَمَ الجزاء مع عِظَمِ البلاء وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط" [حسن/ أخرجه الترمذي].

ويقول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" كذلك: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" [أخرجه مسلم].

وفي الفارق بين وعد الله عز وجل وبين وعد الشيطان، بون شاسع، عبر عنه "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، في حديث عبد الله بن مسعود، الذي فيه يقول رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان"، ثم قرأ "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ" [حسن صحيح/ أخرجه الترمذي].

ويقول "القرطبي"، في تفسير قوله تعالى: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا"، إن المغفرة هي ستر الله تعالى على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل هو الرزق في الدنيا، والتوسعة والنعيم في الآخرة، وبكلٍّ قد وعد الله تعالى.

ويقول "البغوي" في تفسير الآية، إن الله عز وجل يعدكم بما أنزله من الوحي، وبما أودعه في النفوس الزكية من الإلهام الصحيح، والعقل الرجيح، وفي الفِطَر السليمة من حب الخير، والرغبة في البر، مغفرةً منه وفضلاً.

أما وعد الشيطان؛ فلا خير فيه، فهو يعد الفقر، ويؤتي النفس شُحَّها، ويأمر بالفحشاء، ولا منجاة لمن اتبعه، من عقاب الله عز وجل.
والإنسان الذي يرتهن نفسه للشيطان؛ يخسر الخسران المبين، في الدنيا والآخرة، وليس أسوأ من عذاب الله تعالى، سوى الصَّغَار الذي يلحق بهؤلاء، فهم كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً، مثلهم مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث وإن تتركه يلهث، بعد أن ارتضت نفس هؤلاء أن تتبع الشيطان الرجيم؛ فكانوا من الغاوين.

وخير تعبير عن هذه الحالة، قوله تعالى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)" [سُورة "الأعراف"].

وفي الأخير؛ فإن الإنسان لو التزم بتعاليم الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سوف يعيش السعادة في الدارَيْن الأولى والآخرة، أما المعاناة الحقيقية فهي بسبب اتباع الإنسان للشيطان الرجيم، وخروج الإنسان عن المنهج الإلهي القويم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …