إن الإسلام لا يغفل طبيعة الإنسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع الذي يرسمه لهم، وفي ضوء هذا النظر الواقعي جعل الإسلام حدا أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه لان هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول ولأنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين ولأنه وضع على نحو يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الارتفاع إلى مستوى الكمال.
إن هذا المستوى الأدنى يتكون من جملة معاني يجب القيام بها وهي المسماة بالفرائض، كما يشمل جملة معان يجب هجرها وهي المسماة بالمحرمات. إن هذه الفرائض والمحرمات جعلت بقدر طاقة أقل الناس استعدادا لفعل الخير وابتعادا عن الشر ومن ثم يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاه، ولا يعذر في التخلف عنها.
ولكن بجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم، وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع منه وحببت إلى الناس بلوغ هذا المستوى العالي، فإلزامهم به إرهاق لهم وحرج شديد، والحرج في شرع الإسلام مرفوع لأنه يخالف نظرة الإسلام الواقعية قال تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ وقال تعالى: ﴿لا يكلف الله نفساً إلا وسعها﴾.. وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات التي ترغب الشريعة في القيام بها، والمكروهات التي ترغب الشريعة في ترك المسلم لها.
وهذان المستويان الأدنى والأعلى موجودان في تشريعات الإسلام، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
أولاً: الصلاة: منها ما هو فرض، ومنها ما هو مندوب، فالأول يدخل في معاني المستوى الأدنى، والثاني يدخل في معاني المستوى الأعلى، وفيه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى في كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة".
ثانياً: الصيام: الفرض منه صيام شهر رمضان، وهذا من معاني الحد الأدنى المطلوب، وصيام ست من شوال، وأيام البيض من كل شهر، وصوم الاثنين والخميس من معاني المستوى الأعلى.
ثالثاً: وفي إنفاق المال في سبيل الله، فريضة الزكاة، قال تعالى: ﴿أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ وفي صدقة التطوع يقول الله تعالى: ﴿وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون الا ابتغاء وجه الله، وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون﴾.
رابعاً: وفي الاعتداء بصورة عامة تجوز المعاقبة بالمثل، والعفو والصبر أفضل، وهما من معاني المستوى الأعلى، قال تعالى: ﴿وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين﴾.
"تظهر واقعية الإسلام أيضا في إيجاد المخارج المشروعة للمسلم في أوقات الشدة والضيق، وعدم إلزامه بما كان لازما له أو واجبا عليه، أو محرما عليه في الأوقات العادية"
خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فرض كفائي يجب وجوده في الأمة، ويسوغ تركه باليد واللسان والاكتفاء بإنكار القلب بالنسبة لحاكم ظالم طاغية لا يتسع صدره لسماع النصيحة ويقتل من يأمره أو ينهاه، ولكن من المندوب إليه قيام المسلم بأمره ونهيه وان أدى ذلك إلى قتله، وهذا من معاني المستوى الأعلى يدل على ذلك الحديث الشريف: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قال كلمة حق لسلطان جائر فقتله". ولا يعترض علينا هنا بأن إلقاء الإنسان نفسه في التهلكة لا يجوز، وهذه تهلكة، قال تعالى: ﴿ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ لأننا نقول: إن الاستشهاد في سبيل الله مكرمة لا تهلكة، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد أو باللسان ضرب من ضروب الجهاد المشروع، لما يترتب عليه من تقوية نفوس المحقين وخذلان المبطلين وإيقاف الظالمين عند حدودهم.
سادساً: والإكراه على الكفر بالتهديد بالقتل يسوغ للمكره أن يقول كلمة الكفر بشرط اطمئنان القلب بالإيمان رخصة من رخص الإسلام وهي من معاني الحد الأدنى قال تعالى: ﴿إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان﴾ والمندوب إليه عدم قوله الكفر وإن أدى ذلك إلى قتله وهذا من معاني المستوى الأعلى.
ولا تقف واقعية الإسلام عند الحد الذي ذكرناه وهو وضعه مستويين للكمال، أدنى وأعلى، وإنما تظهر واقعية الإسلام في أمر آخر هو إيجاد المخارج المشروعة للمسلم في أوقات الشدة والضيق، وعدم إلزامه بما كان لازما له أو واجبا عليه، أو محرما عليه في الأوقات العادية، وعلى هذا الأساس جاءت الرخص كلها وجاءت القاعدة الفقهية "الضرورات تبيح المحظورات" لأن النفوس قد لا تقوى على الاستمرار بما يريده الإسلام في الظروف القاسية والأحوال الاضطرارية فتقع في المعصية فخفف الإسلام عنها بما شرعه من رخص ومنها إباحة أكل الميتة عند الجوع الشديد الذي يخاف فيه تلف النفس، وإباحة ترك الواجب مثل الفطر في رمضان للمريض والمسافر.