في خضم يوميات الحياة التي نعيشها، وكثرة الاحتكاك بالناس قد يتعرض المرء لمواقف غير مبررة، تترك في نفسه أثراً ويلمح إليه عقله بالكثير من الاحتمالات التي ربما يؤمن بها دون دليل، ولمجرد أنه استشعرها ورأى أدلة أقنعته بها، الأمر الذي يوقع به في وحل الظن بالآخرين دون استبيان أو يقين.
يعرف الظن اصطلاحاً بأنه الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض؛ ويستعمل في مسائل اليقين والشك، أما حسن الظن هو ترجيح جانب الخير على جانب الشر عند اجتماعهما في أمر ما.
وينقسم الظن الى قسمين: أحدها إساءة الظن بالله عز وجل وأنبياءه وهذا محرم ومن الذنوب العظيمة كما قال ابن القيم "أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به" بل يصل بصاحبه إلى مرتبة الكفر، والخروج من الإسلام.
أما القسم الثاني فهو إساءة الظن بالعبد وهذا ما دعى النص القرآني إلى اجتنابه ووصف بعضه بالإثم وهو الظن بالمؤمنين دون دليل أو برهان.
سوء الظن دمر حياتي
تقول أم عبيدة: عانيت كثيراً من بعض المحيطين بي والذين لم يتحلوا بهذا الخلق الراقي؛ فقد عشت في منزل أهل زوجي مدة من الزمن عجّت كلها بالخلافات بسبب إساءة الظنون التي كانت تحيطها، فإن أنا دخلت لغرفتي من أجل الصلاة خرجت والكل يتغامز بأني تهربت من جلي الأطباق أو المساعدة في إعداد الأطعمة، وإن أرسلت رسالة لزوجي تناقلوها على أني أتجسس عليهم وأرسل لوالدتي بكل تفاصيل حياتهم، وهكذا حتى لم أعد أحتمل وكان قراري هو الطلاق بسبب عدم قدرتي على التحمل وعدم مقدرة طليقي فتح بيت منفصل عنهم، لو كانوا يتحلون بالقليل من هذا الخلق لكانت حياتنا هانئة سعيدة.
أما عمرو خرشان فبعد تجربة يقول لبصائر: عندما تحسن الظن بالآخرين يعتقدون أنك شخص أبله ومن السهل أن تكون فريسة سائغة. فقد أحسن الظن بأحدهم عندما يقوم بتصرف غير مقبول أمامي وأرجئ الأمر للاحتمالات الحسنة، لكن عندما يأتي أحدهم ويتحدث بسوء عن آخر أو يطلب المال بحجة ما، فأسيء به الظن إلى أن يتبين لي صدقه، لأنني عانيت من سرقة أحدهم لمبلغ مالي أخذه كدين لعلاج والدته وقد تبين بعد ذلك انها لم تكن بحاجة له وإلى اليوم لم يسدد ما عليه.
وتدعو أسماء عزيز لأن يحرص كل منا على تذكير الآخرين بإحسان الظن عندما يذكر أحدهم أحدا بسوء، فليس منا من هو معصوم، أحيانا يلجأ الكثيرون منا للفضفضة ونقل الكثير من القصص من باب جذب أطراف الحديث ونقل أخبار الآخرين، لكن يجب أن نتقي إصدار أحكام عليهم لمجرد قصة مرت بنا أو موقف حدث لا نعرف أسبابه وحيثياته.
"د. فرج الله: حسن الظن ثمرة إحسان في المسير، ومقام رفيع مثوبة للصادقين، يعينهم في مسيرهم، المحفوف بكثير من المكاره، التي لا يكاد يسلم منها بشر"
إحسان الظن بالله .. كيف يكون؟
يفتتح الداعية الدكتور عبد الله فرج الله حديثه لبصائر بالقول: يقيم البعض حسن ظنه بربه على أساس من الغفلة وسوء البضاعة، وإهمال الطاعات، وارتكاب المخالفات، وهذا صنف نصادف أمثلة كثيرة منه في حياتنا، فيقيناً ما عرف حقيقة مسيره، ولم يدرك أصلاً أنه في مسير إليه، ولو أدرك جانباً من هذا، لما تجرأ عليه، وادعى ما يخالف سنته، ويتعارض مع دينه ودعوته.
فحسن الظن ثمرة إحسان في المسير، ومقام رفيع مثوبة للصادقين، يعينهم في مسيرهم، المحفوف بكثير من المكاره، التي لا يكاد يسلم منها بشر، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون". ولقوله تعالى في سورة آل عمران: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)}.
وأوضح فرج الله بأن حسن الظن لا يمنعك من معصيته -سبحانه- أو مخالفة أمره، وارتكاب حرماته؛ لأنه لا يشكل حصانة لك من الذنب، أو عصمة من الخطأ، بل هو الذي يدفعك للجوء إليه، والإنابة له، والارتماء بين يديه، راكعاً ساجداً تائباً ترجو عفوه ومغفرته، إن استبدت بك لحظة ضعف وشهوة... فلا ترى ذنبك وإن عظم حائلاً بينك وبينه.. أو مانعاً من الوصول إليه.
دار أبي أيوب .. وعاصفة الإفك:
"د. دية: إحسان الظن بالآخرين يؤدي إلى نبذ الشائعات الكاذبة التي ينشرها الأشرار عن الأخيار، كما يحافظ على حرمة دماء المسلمين وأعراضهم، ويحمي المجتمع من الشكوك والمفاسد"
يستذكر الداعية الدكتور عبد المجيد دية مثالاً جليلا أبدع في رسمه أبو أيوب الأنصاري وزوجته الجليلة في وقت لغى فيه كثيرون وتناقلوا الأكاذيب حول الطاهرة المبرءة عائشة رضي الله عنها، والصحابي الجليل صفوان: إذ دخل أبو أيوب الأنصاري على زوجته فقال لها: يا أم أيوب أسمعت ما يقوله بعض الناس عن عائشة؟ قالت سمعت وهذا هو الكذب. ثم قالت له: هل لو كنت محل صفوان كنت تظن بحرمة رسول الله هكذا؟ قال: لا، فقالت له: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعائشة خير مني وصفوان خير منك، وهكذا كان الأخيار الأطهار يبنون أمورهم على حسن الظن بالناس.
ويضيف د. دية بالقول ان إحسان الظن بالآخرين يؤدي إلى نبذ الشائعات الكاذبة التي ينشرها الأشرار عن الأخيار، كما يحافظ على حرمة دماء المسلمين وأعراضهم وخاصة بعد ماتبثه وسائل الإعلام اليوم عن المسلمين من أكاذيب كثيرة جدا ، كما أن إحسان الظن يحمي المجتمع من الشكوك والمفاسد، لأن سوء الظن يفسد الناس والمجتمع ثم الأمة بعد ذلك.
إحسان الظن بالعباد .. كيف يتحقق؟
وحول إساءة الظن بالعباد، يستطرد الدكتور عبد الله فرج الله حديثه حول قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} بالقول: إن حسن الظن بالناس علامة نبل وفضل، فمن نبلت أخلاقه وسما فضله أحسن الظن بالناس من حوله، وأقام علاقاته بهم على أساس الظن الحسن، لكن هذا لا يعني أن تسلم أمرك لمن هم حولك وتنقاد إليهم في كل شأنك، وتستجيب لكل طلباتهم، وتؤمن بكل أفعالهم وتصرفاتهم، وتصدق كل أقوالهم وشهاداتهم، كما هو الأمر في حق الله سبحانه وتعالى، فما أكثر الذين يظلمون حسن الظن حين يرونه في هذه الصورة التي هي أقرب للسذاجة والبلاهة، فليس من المعقول أن يأمرك الإسلام بأن تلغي عقلك وتفكيرك ورؤيتك وفراستك، بل يأمرك بحسن الظن بالحوار والمحاججة والتوثق والاستيثاق باليمين والشهادة والتسجيل، ونستدل على هذا بآية الدين وهي أطول الآيات في كتاب الله؛ وهي تضع شروط تعزيز حسن الظن بالآخرين؛ فالشيطان قد يمكر بالإنسان في لحظة ضعف فتأتي هذه الشروط كي تحميه من نزغات الشيطان المخلة بالحياة كلها.
ويضيف د. فرج الله أن الأصل في العلاقات الإنسانية حسن الظن، ولا تعني التجارب المريرة التي يمر بها البعض، والتي في الغالب لا تكون بسبب حسن الظن، بقدر ما تكون بسبب الطمع المادي، والإهمال وعدم التدقيق في توفير شروط حسن الظن، والتي بسببها يتحول حسن الظن إلى مصيدة ومهارة تحايل، وحرفة شيطانية، لها أدواتها الظاهرة، التي ينخدع بها كثير من الناس، مما يشكل لديهم صدمة كبيرة، يحكمون بسببها على حسن الظن بالفشل، وأنه لا مكان له في حياة الناس، بدل أن يحكموا على أنفسهم بالفشل، في كيفية التعامل، وكيفية اتخاذ القرارات، فيعمدوا إلى تعميم تجاربهم الخاصة الفاشلة، فيقدموا سوء الظن على غيره.
ويستغرب فرج الله من الذي ينظر لفقه سوء الظن، ويجعله في مقدمات وشروحات وتفصيلات، يسوق إليها الأدلة والبراهين، هو بعينه الذي يأمل من الناس أن يحسنوا به ظنهم، ويهرعوا إليه إن لاذ بهم، ويضعوا بين يديه إمكاناتهم وممتلكاتهم... وهذا في الحقيقة يبطل ما يذهب إليه، ويؤكد أن الأصل في العلاقات مع الآخرين حسن الظن، هو الأساس الذي يوصلك بالآخرين ويوصلهم بك، وإلا انقطعت بك السبل.
ويختتم الدكتور عبد المجيد دية الداعية الإسلامي بالقول إن الإسلام دين يدعو إلى حسن الظن بالناس والابتعاد عن سوء الظن بهم ويستدل بالحديث الشريف القائل: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" (رواه البخاري). فالواجب على المسلم أن يطيع الله ورسوله ويلتزم بأمره ونهيه، وهذا بداية التربية على حسن الظن بالناس، ثم بتربية النفوس على حب الخير للآخرين، وحمل كلام الناس على أحسن المحامل، والتماس الأعذار للآخرين، وتجنب الحكم على النيات لأن السرائر لا يعلم بها إلا الله.