قال الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (سورة الحج).
لقد شاء الله تعالى أن تقوم هذه الحياة على التدافع بين الناس، وأنّ التمكين في الأرض لا يكون إلا للفئة التي تبذل وسعها وطاقتها.
وأمة المسلمين ليست بمنأىً عن هذه السنة الاجتماعية الربانية، فلا يجوز للمسلمين أن يظنوا للحظة أن التمكين سيأتي لهم هِبَة من السماء وهم قاعدون؛ فلابد للتمكين من ابتلاء، ولابد للابتلاء من دعوة، ولابد للدعوة من فكرة تحملها عقول عاملة وأكتاف مستعدة للتضحية في سبيلها.
فالنَّصر يا قومِ لن تَهمِي سَحَائِبُه *** إلا لجِيلٍ عظيمِ العزمِ مِغوَارِ
هَبّوا وَلَبّوا فما في البُؤسِ من رغدٍ *** فالجذعُ مِن مكَّةٍ والغُصنُ أنصَارِي
مَهمَا تَكُن هَمْلَجَاتُ الدَّهرِ مُزبِدَةً *** وَجَحفَلُ الشَّرِّ مُلتَفّاً على الدَّارِ
فَلم تَزَل رايةُ التَّوحِيدِ خَافِقَةً *** وَمُرهَفُ الحَدِّ مَسنُوناً عَلَى النَّارِ
إن المشكلة التي واجهتها الجاهلية في تعاملها مع دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، هي: أنه جاء بمشروع حضاري متكامل كبديل محدد لهذه الجاهلية، فليس من المستغرب إذاً أن تقف الجاهلية متكاتفة في وجه المشروع الجديد.وقد لخص أبو جهل هذه الفكرة بقوله: (يا محمد. إنا لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به). (رواه الترمذي).
"لابد للتمكين من ابتلاء، ولابد للابتلاء من دعوة، ولابد للدعوة من فكرة تحملها عقول عاملة وأكتاف مستعدة للتضحية في سبيلها"
لقد كانت المعركة واضحة في ذهن أبي جهل وغيره من عتاة الجاهلية، وهذا ما حملهم على الوقوف في وجه المشروع الجديد،وهذا بالتحديد ما يمارسه عتاة الجاهلية في هذا الزمان؛ بوقوفهم متكتلين متكاتفين في وجه المشروع الحضاري التحرري الذي بدأ يفرض نفسه ويتحلل من قيوده.
ويكاد الإعلام المدعوم بالمال الخبيث أن يكون الأداة الأكثر تأثيراً في هذه الحرب القذرة التي يشنها الأعداء من داخل الأمة ومن خارجها.
والناظر في السيرة النبوية يجد أن قريشاً في الخارج، واليهودَ والمنافقين في الداخل كانوا جميعاً يمارسون حرباً قذرة تستهدف المشروع الإسلامي إعلامياً واقتصادياً، أما الحرب القتالية فكانت محدودة الزمان والمكان.
يقول الله تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها، ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون}، (سورة الأنفال).
تخيلوا: لو أن إعلام اليوم ـــــ أعني الإعلام البائس المأجور ـــــ تخيلوا: لو أن هذا الإعلام كان يغطي أحداث السيرة النبوية، فكيف كان سيغطي الهجرة النبوية مثلاً؟!
ربما صور لنا أن الرسول ترك أصحابه الضعفاء يعذَّبون في مكة، وخرج بأصحابه الأقوياء؛ ليؤسس زعامة في المدينة على حساب من هو أحق منه بالزعامة كعبد الله بن أبي.
أو لو كان هذا الإعلام يغطي أحداث غزوة بدر؟! لربما صور لنا أن قريشاً خرجت تدافع عن مصالحها التجارية التي يهددها المسلمون المعتدون.
"المشروع الإسلامي التحرري، لا يمكن أن ينال التمكين إلا بالبذل والتضحية، ومواجهة المؤامرات التي يحيكها الأعداء، وأن يتعامل مع ذلك بالحكمة والحزم؛ فإن الزمان الذي نعيش فيه يشبه في كثير من معطياته ما كان يواجهه الجيل الإسلامي الأول"
تخيلوا: لو أن هذا الإعلام كان يغطي أحداث غزوة الأحزاب! لربما اتهم المسلمين بتوريط أنفسهم في حرب غير متكافئة بعدما استفزوا الغالبية العظمى الرافضةَ لوجود هذا الكيان الانفصالي الجديد في جزيرة العرب.
أو لو كان هذا الإعلام يغطي حدثاً هائلاً كحروب الردة مثلاً! لربما قال لنا: إن الدافع الحقيقي لهذه الحروب الطاحنة هو السياسات الفاشلة والممارسات الضعيفة لمركز الإدارة في المدينة.
هذه أمثلة قليلة، وقس على ذلك.
لقد أسس محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعاً مدنياً حراً وسط أمواج متلاطمة من التخلف والاستبداد ومؤامرات الأعداء داخلياً وخارجياً، واستمر طوال عشر سنوات تقريباً يواجه هذه المؤامرات ويشق طريقه بالحكمة والحزم. ثم واجه خليفته أبو بكر الصديقُ رِدّةً سعّرت بنارها معظم أنحاء جزيرة العرب.
ولم تستقر أمور المجتمع الجديد إلا مع بداية عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، الذي بنى الدولة المدنية بعد خمسة عشر عاماً على الأقل من التأسيس... فهل نتذكر ونعتبر؟!
إن المشروع الإسلامي الحضاري التحرري، لا يمكن أن ينال التمكين إلا بالبذل والتضحية، ومواجهة المؤامرات التي يحيكها الأعداء داخلياً وخارجياً، وأن يتعامل مع ذلك بالحكمة والحزم؛ فإن الزمان الذي نعيش فيه يشبه في كثير من معطياته ما كان يواجهه الجيل الإسلامي الأول. ومن أراد أن يعلم ويعمل، فلابد له من عودة واعية إلى قراءة التاريخ الأول لهذه الأمة.
"دماء الشهداء هي الوقود النقي النفيس الذي تتقدم به الأفكار نحو أهدافها، ولولا هذه الدماء لما كانت هناك حرية ولا حضارة ولا تقدم"
وكما قدمنا: فإن التمكين لا بد له من ابتلاء، ولابد للابتلاء من دعوة، ولابد للدعوة من فكرة تحملها عقول عاملة وأكتاف مستعدة للتضحية في سبيلها.
فدماء الشهداء هي الوقود النقي النفيس الذي تتقدم به الأفكار نحو أهدافها، ولولا هذه الدماء لما كانت هناك حرية ولا حضارة ولا تقدم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بشّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض". (رواه أحمد).
قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)} (سورة النور).