يقول الله عز وجل في مُحكم التنزيل: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [سُورة الأنعام:57]
وفي سُورة "يُوسُف"، يقول تبارك وتعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)}، ويقول أيضًا في آية أخرى من نفس السُّورة: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)}..
وصح عن الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، أنه قال: "إن اللهَ هو الحَكَم وإليه الحُكْم" [أخرجه أبو داوود والنسائي]، وفي شرح السُّنَّة؛ فإن "الحَكَم" هو "الحاكم" الذي إذا حَكَم لا يُردُّ حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله تعالى، ومِن أسمائه الحسنى التي يتفرد بها عز وجل، "الحَكَم".
هذه الآيات جميعها، وهذا الحديث النبوي الشريف، تؤكد على مبدأ شديد الأهمية في عقيدة كل مسلم، نسيته غالبية معتبرة من المسلمين، في خضمِّ التجهيل المتعمد من جانب أنظمة علمانية فاسدة ومستبدة، وقوى استكبار عالمي، يقودها التحالف المسيحي اليهودي، في الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، ألا وهو مبدأ الحاكمية لله، وتوحيدها.
"توحيد الحاكمية، يعني إفراد الله تعالى وحده في الحكم والتشريع؛ حيث الله تبارك وتعالى، هو الحكَم العدل، له الحكم والأمر، لا شريك له في حكمه وتشريعه"
وتوحيد الحاكمية، يعني إفراد الله تعالى وحده في الحكم والتشريع؛ حيث الله تبارك وتعالى، هو الحكَم العدل، له الحكم والأمر، لا شريك له في حكمه وتشريعه، وهو أمر طبيعي؛ مادام الله تعالى هو الملك الحق، والإله الواحد الأحد، والربُّ الخالق المدبِّر لهذا الكون؛ لا شريك له في المُلْك، وفي تدبير شؤون الخلق، وبالتالي، فهو أيضًا- عز وجل- لا شريك له في الحكم والتشريع.
ولقد حدد القرآن الكريم حُكم من لم يحكم بما أنزل الله تعالى من تشريع، ففي سُورة "المائدة"، هؤلاء، إما كافرون، أو فاسقون، أو ظالمون، كما في الآيات 44-47 من السورة الكريمة.
ومبدأ توحيد الحاكمية داخل في توحيد الألوهية، ومنه ما يدخل في توحيد الربوبية، ومنه ما يدخل في توحيد الله تعالى في أسمائه وصفاته، على النحو الذي تقدَّم.
ولذلك، فأن نتكلم عن مبدأ "الحاكمية لله"، أمر مختلف عن أن نتناول بالنقد أفكار الشهيد سيد قطب، الذي كان من أهم مفكري المسلمين المعاصرين، الذين أعادوا إحياء هذا المفهوم العقيدي المهم، في عقول وفهم المسلمين.
فالحاكمية لله، جزء من عقيدة الإنسان، ومن لا يؤمن به؛ إما أن يكون علمه ناقص، أو عقيدته بها فساد يجب عليه علاجه.
والمبدأ ورد في القرآن الكريم بشكل صريح لا لبس فيه، كما تقدم، ولكن، ولشديد الأسف، وتحت وطأة خصومة معينة بين البعض وبين الإخوان المسلمين، أو سيد قطب تحديدًا؛ يطعنون في المبدأ نفسه، وهذا أمر خطير للغاية.
فالمحتوى السياسي الذي يحمِّلُه البعض لفكرة الحاكمية- باعتبار أنها لتمكين الإخوان المسلمين (!!!)- خاطئ تمامًا، في اتجاهه الحالي؛ أي الإشكالية المتعلقة بالموقف من الإخوان المسلمين، من جانب بعض القوى السياسية والمجتمعية، في بعض المجتمعات العربية والإسلامية.
خصيمٌ مبينٌ:
تناسي البعض من المسلمين لهذا المبدأ العقدي، يعكس أيضًا جانبًا آخر سلبيًّا استشرى بين ظهرانيي المسلمين، وهو الغرور والكِبْر، بحيث يظن هؤلاء أن الدنيا خُلِقَت لأجلهم، وأن سعيهم فيها، يكون لهم ولصالح متاعهم وإرضاءً لرغباتهم وشهواتهم الزائلة!
يظن هؤلاء أن الله تعالى، خلق الإنسان، لأغراض تتعلق بالإنسان، وتبعًا لما يراه الإنسان!!.. وهي نظرة خاطئة يجب عليهم مراجعتها.
وصدق الله تعالى إذ يقول: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [سُورة النَّحل:4]، وقال وقوله الحق أيضًا: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} (77) [سُورة يس:77]..
الحقيقة الإيمانية التي لا تدحض، هي أن الله سبحانه تعالى خلق الإنسان لأمور محددة، ولخاصَّةِ الله تعالى وغاياته هو، ولعبادته عز وجل تحديدًا، وأوجب على الإنسان العمل على كل ما يُيَسِّر سُبُل العبادة، وتمكين شريعة الله في الأرض، وهو ما يصب فيه كل قواعد العمران البشري والحضارة الإنسانية، التي تؤدي إلى تيسير سبل حياة الإنسان في الأرض، للتفرغ للعبادة.
فالله تبارك وتعالى استعمر الإنسان في الأرض، واستخلفه فيها..{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سُورة "البقرة"- مِن الآية 30]، من أجل إقامة شريعة الله تعالى في الأرض، وعبادته.
والقرآن الكريم واضح للغاية في هذا الأمر، فيقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات:56].
ويشمل ذلك العمل، والعلم المدني، وغير ذلك من سعي الإنسان في الحياة الدنيا، فالعمل- على سبيل المثال- يجعل الإنسان حرًّا يأكل من كسبه، وبالتالي يتفرغ للعبادة، ويخدم دينه ومجتمعه المسلم، فلا يمكن للإنسان الجائع غير الآمن، أن يعبد الله تعالى بحق، ويخلص له العبادة، وهو ما أكده القرآن الكريم، ففي سُورة "قريش"، يقول: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)}، فربط عبادته عز وجل، بالأمن المادي والمعنوي.
"العلم المدني، يساعد الإنسان على تيسير حياته في الدنيا، وبالتالي التفرغ لعبادة الله، وأيضًا تحسين سُبل نشر دعوته من خلال وسائل الاتصال والإعلام الحديثة"
والعلم المدني، يساعد الإنسان على تيسير حياته في الدنيا، وبالتالي التفرغ لعبادة الله عز وجل، وأيضًا تحسين سُبل نشر دعوته من خلال وسائل الاتصال والإعلام الحديثة، والدفاع عن ديار الإسلام ضد الغزاة والمعتدين، الذين يملكون العلم والسلاح..
وهو أيضًا تحقيق لقانون مهم، وهو تسخير الكون للإنسان، واستغلال مفرداته.. وهو أيضًا قانون إلهي، من أجل تيسير سبل حياة الإنسان على الأرض، في الدنيا، من أجل قيامه بمهمته الأسمى، وهي عبادة الله تعالى، وإقامة شريعته..
ودليلنا في ذلك من القرآن الكريم أيضًا، فيقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سُورة الحَج:41]..
إذن فكل سعي الإنسان، حتى ما يبدو منه أنه من صميم متاع الدنيا؛ يجب أن يكون لله تعالى، الذي له الحكم، وإليه يرجعون.
فالأولى هو توجيه فكرة الحاكمية إلى مساقها العقيدي السليم، الذي يتعلق بدولة الشريعة وأُسسها، بعيدًا عن أي توظيف سياسي "جهوي" أو "تنظيمي" أو "جماعاتي" لو صح التعبير!..