في منتدى من منتديات البلد، أو ديوان من دواوين العائلات والعشائر، أو حتى في الزيارات العائلية، يجلس الأهل والأحباب ويتبادلون أطراف الحديث، بل يخوضون ويتقولون، وينقلون من الأخبار والتحليلات عن غائبهم أو عن بعض نساء الحي ما لا يصح ولا يجوز ولا تقوم فيه مروءة.
لقد انتشرت في عالمنا الإسلامي آفة يجب محاربتها ويجب التوقف عندها والتأمل فيها كثيراً، فهي مما يفت عضد المجتمعات وينشر الخلاف فيما بينها، وحقيقة الموضوع تكون في "القيل والقال" وكثرة السؤال، وسوء الظن.
بينما امتاز المجتمع الإسلامي عبر العصور بقوة تماسكه وتشكله صفا واحداً صعباً على الأعداء، صعب الاختراق والمهاجمة، إن أساء أخي التمست له عذراً، فإن لم أجد له عذراً، اعتذرت عن نفسي أنني لم أجد له العذر، وكانت التهمة دائما أبعد ما تكون بين أفراد المجتمع؛ فعلى الرغم من قرب عهد الصحابة من العصبية والجاهلية إلا أننا وجدنا منهم من يدفع عن عرض أخيه ويحفظه في غيبته، ففي حديث كعب بن مالك حين تخلف عن تبوك يقول: "ولَمْ يَذكُرني رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم حتَّى بَلَغ تَبُوكَ، فقالَ وَهُوَ جَالِسٌ في القوْمِ بتَبُوك: ما فَعَلَ كعْبُ بْنُ مَالكٍ؟ فقالَ رَجُلٌ مِن بَنِي سلمِة: يا رسول الله حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَالنَّظرُ في عِطْفيْه. فَقال لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضيَ اللَّهُ عنه. بِئس ما قُلْتَ، وَاللَّهِ يا رسول الله مَا عَلِمْنَا علَيْهِ إِلاَّ خَيْرا.." (متفق عليه).
والخوض في مثل هذه الأحاديث محرم في الكتاب والسنة، بنصوص صريحة؛ فالله تعالى يقول في كتابه: {ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه} [الحجرات:12].
وفي خطبة الحج الأعظم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ» (متفق عليه).
"امتاز المجتمع الإسلامي عبر العصور بقوة تماسكه وتشكله صفاً واحداً صعباً على الأعداء، صعب الاختراق والمهاجمة، إن أساء أخي التمست له عذراً، فإن لم أجد له عذراً، اعتذرت عن نفسي أنني لم أجد له العذر"
فليس الاعتداء بالفعل فقط حرام بل الاعتداء بالقول أيضاً كتحريم الإسلام القذف وتحديده لعقوبة على ارتكبابه.
ولعل أكثر الأمور سوءاً مما يقع فيه بعض الناس هو تتبع العورات والسؤال والاستفسار عن الناس وأحوالهم وما فعلوا وأينما حلوا أو ارتحلوا وهذا كله قد نهينا عنه فقد قال عليه الصلاة والسلام يوماً لأصحابه: «يا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فإنَّه مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (رواه أحمد وأبو داود). وهنا تظهر بداية الداء: تتبع العورات والتجسس، وهذا هو عقابه.
أما دور المسلم حين يسمع عن أخيه ما يسوؤه هو الدفاع عنه، كما قال معاذ بن جبل في حق كعب بن مالك: ما علمنا عليه إلا خيراً، أو كما قالت النساء اللاتي بالأمس كُنَّ يراودن يوسف عن نفسه، قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء، هذه الشهادة المطلوبة.
قال النووي رحمه الله في تعليقه على كلام معاذ في حق كعب بن مالك: "هذا دليل لرد غيبة المسلم الذي ليس بمتهتك في الباطل، وهو من مهمات الآداب، وحقوق الإسلام"، شرح النووي على مسلم.
وقال أيضاً: "اعلم أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد ولا باللسان، فارق ذلك المجلس، فإن سمع غيبة شيخه أو غيره ممن له عليه حق، أو كان من أهل الفضل والصلاح، كان الاعتناء بما ذكرناه أكثر"، الأذكار.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَءاً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ»، (رواه أحمد وأبو داود).
"قال النووي: اعلم أنه ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها ويزجر قائلها، فإن لم ينزجر بالكلام زجره بيده، فإن لم يستطع باليد ولا باللسان، فارق ذلك المجلس"
فكم من فتى طرد من عمله بسبب سوء الظن والتقول عليه، وكم من فتاة جلست في بيت أهلها وقد أحاطها شبح العنوسة بسبب شائعة خرجت من مبغض حسود وليس لها أصل من الصحة، وكم من رجل مات مظلوما أو سجن مظلوما بسبب هذه الشائعات، والنفس تحب كل جديد وغريب، فإن لم تهذب نفسك على الابتعاد عن هذه المجالس لتنجرفن مع التيار وتخوض في أعراض الناس بما يجوز ولا يجوز، وهذا من شأنه أن يصنع مجتمعاً متناحراً ضعيفاً فاقد الثقة بنفسه.
البداية تكون من عندك، لا تسمح بهذه الشائعات أن تنطلق ابتداء من عندك، ومن ثم لا تسمح لأحد بأن يثير شائعة على شخص معين تعرفه أو لا تعرفه وقم بنهيه وبيّن له حرمة ذلك الإثم الذي يخوض فيه، ومن تتبع عورة امرئ تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه الله؛ والقصص حول ذلك كثيرة.
وتذكر أنه لما وصف الله المؤمنين كما يريد قال: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، والمرصوص هو التام الكامل الذي لا فجوة فيه ولا نخر.