الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
لم يكن غريباً أن يتبارى هؤلاء في سباق الاتهام للثوار المناضلين بأنهم خوارج، ولم يكن مفاجئاً أن ينبري كلّ منهم للدفاع عن الخوارج الحقيقيين الذين اختطفوا الوطن، واغتصبوا إرادة الأمة، ولم يكن جديداً أن يقلبوا الحقائق على هذا النحو المشين وبهذه الوقاحة المفرطة.. ذلك لأنّ هذا هو ديدنهم، بل هو دينهم الذي يتدينون به ويتحنثون في محرابه ليل نهار.
ولقد رأينا أن نتنزل معهم إلى حدّ (الانقلاب) والوقوف على الرأس؛ حتى نرى مثلهم الأمور على عكس ما خلقها الله - ولا حول ولا قوة إلا بالله - فلنفترض جدلاً أنَّ هؤلاء خوارج؛ فليقل لنا علماؤنا: على من خرجوا؟ أعلى مثل عليّ؟ أم على مثل معاوية؟ أم - حتى - على مثل الحجاج بن يوسف الثقفيَّ؟ إنَّ الحجاج الذي حملت إلينا كتب التاريخ صرخات الصالحين من ظلمه الذي ملأ الأرض يومها لم ينقل لنا راوٍ واحد في هذه الكتب أنَّ أعداء الأمَّة قالوا فيه من الثناء والمديح مثلما قالت إسرائيل عن الجنرال الإمام الذي يحرم الخروج عليه.
ولو أنّك عبرت القرون واخترقت الأزمان مسافراً إلى ذلك الزمان؛ فالتقيت بأشدّ العلماء نكيراً على الحجاج، وقلت له على سبيل المجاملة أو الفضول أو التجسس: إن الحجاج تآمر مع الروم على الأمة، وإنه على اتصال يوميّ بقائد جيشها؛ لَهَبَّ من مجلسه منتفضاً، ولملم ما تبقى من شكايته وصاح في وجهك: مُجَّ من فمك هذا الذي تلوكه وتحركه بين شدقيك من الكلام الغريب، فما كان الحجَّاج إلا قائداً عاماً لجيوش الدولة الإسلامية في المشرق، وما رأى أعداء الأمة منه إلا بأساً وشدة، ألم تقرأ يا هذا التاريخ ليخبرك بأن الحجَّاج هو من سيَّر جيوش قتيبة بن مسلم التي اجتاحت شمال آسيا بالِغَةً حدود الصين، وسيَّر جيوش محمد بن القاسم التي طوت الأرض طيَّاً فاتحةً بلاد الهند والسند، قُم يا هذا وارجع أدراجك إلى زمانك الذي وقع فيه ما لا يحتمله خيال موحد..
فلنعتدل - إذاً - ولننظر للأمور على وجهها الصحيح الذي أوجدها الله عليه، ولنسأل أنفسنا بشجاعة وصراحة: من الأحق بأن يوصف بأنه خارج على الحاكم الشرعي؟ ومن الأجدى بأن يقوم الشعب عليه ليرده عن بغيه؟ ومن الأولى بأن تتنزل عليه النصوص التي تجرم نكث العهد، كقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَزَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، فَلَا حُجَّةَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَاتَ مُفَارِقًا لِلْجَمَاعَةِ، فَقَدْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» (صحيح مسلم)، وقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ»، (صحيح مسلم)، من الذي أقسم اليمين أمام قائده الحاكم الشرعيّ للبلاد ثم نكث وانقلب عليه وعلى إرادة الأمة وقرر إلغاء خمسة استحقاقات سلفت.
ألم نقم باختيار رئيس للبلاد؟ ألم نقم بالتصويت على دستور كان يمهد لتطبيق الشريعة ولو على المدى البعيد؟ ألم نقم باختيار نواب يمثلون الشعب؟ ألم نصنع كل هذا عبر آلية ارتضيناها وتعاقدنا ضمنياً على اعتبارها معبرة عن إرادة الأمة وملبية لاختيارها؟ ألم نقل يومها إننا لأول مرة في تاريخنا المعاصر نمارس حقاً سياسياً معبراً عن إرادتنا؟ ألم يشهد العالم كله يومها بأنها انتخابات واستفتاءات تمتعت بالنزاهة وجاءت بصدق معبرة عن إرادة الأمة؟
من الذي سرق كل هذا منا؟ من الذي اعتدى على كل هذه المكتسبات واغتصبها اغتصاباً؟ أليسوا هم هؤلاء العسكر الذين خصخصوا جيش الوطن وسخروه لخدمة أهوائهم ومصالحهم الشخصية؟
فإن قالوا مثلما يقول أولياؤهم بأن الشعب هو الذي خرج عليه في الثلاثين من يونية، فتلك الفرية الكبرى والأكذوبة العظمى، وهي تنطلي على البسطاء الذين لا يعلمون أنّ أيّ انقلاب عسكريّ على حاكم شرعيّ في زمان ساد فيه احترام إرادة الشعوب لا بدّ له من سترة شعبية مزعومة يستر بها عورته المفضوحة، وأنه من المستحيل عقلاً وواقعاً أن تقوم ثورة على حاكم منتخب بإرادة حرة بعد عام واحد من حكمه، وأن تكون الساعات الست الأقل كلفة كافية في خلعه وإسقاط شرعيته، وأن تكون ثورة ثانية تلك التي برز فيها قتلة ثوار الثورة الأولى، وأن يتبعها قمع وقهر وقتل وسجن وتعذيب وانتهاك لكل حقوق الإنسان بلغ إلى حدّ إحراج الدول الداعمة لهم الواقفة بجانبهم.
والدليل الأكثر سطوعاً هو ذلك التحدي الذي يعلنه معارضوا الانقلاب بشكل دائم وبصورة مستمرة: أن افتحوا الميادين لتعلموا من هو الشعب الذي له إرادة ينبغي أن تحترم، ولتدركوا وليدرك العالم الحجم الحقيقي لأنصاركم والحجم الحقيقي لانصار الشرعية، وليتبين مع أيّ الفريقين يقف الشعب.
ثمّ إنكم آخر من يتحدث عن الشعب وثورته، أم أنكم نسيتم موقفكم من ثورة يناير! ألم تقولوا يومها إنها خروج على الحاكم؟ مع أنه لم يكن حاكماً بالمعنى الذي تنبني عليه الأحكام شرعاً، وإنما كان زعيم عصابة اختطفت البلاد من قبل مثلما تفعل اليوم عصابة الانقلاب.
ستقولون: إنّ السيسي هذا حاكم متغلب، قد اعترفتم - إذاً - أنه أخذها بالسيف، هذا هو المقتضى الأول لهذا التوصيف، وهو يهدم زعمكم بأن الشعب هو من عزل الرئيس المنتخب، لكنكم لا يمكنكم - بحال - أن ترتبوا على توصيفكم هذا أحكام المتغلب، لأنه لا يفيد سوى انتزاع الحكم بالخروج على حاكم شرعيّ، ومثل هذا لا يسمى متغلباً بالمعنى الشرعي الذي تنطبق عليه أحكام المتغلب، وإن كان متغلباً في الواقع بقوة السلاح، وهذا لا يسمى متغلباً وإنما يسمى باغياً يجب القيام عليه ورده عن غيّه وبغيه، إعمالاً لقول الله تعالى: "فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله".
أمَا من يأخذ وصف المتغلب الذي ينبني عليه أحكام المتغلب فهو من تغلب وكان معه بيعة متنازع عليها، والمثال الحاضر على ذلك عبد الملك بن مروان، فقد دعا علماء السلف ومنهم ابن عمر إلى عدم الخروج عليه لكونه متغلب، ذلك لأن عبد الملك بن مروان بويع له بالشام، وابن الزبير بويع له في الحجاز، فكان الأول يدعى أمير المؤمنين وكان الثاني يدعى أمير المؤمنين، ومن هنا كانت المصلحة تقتضي التسليم بحكم من غلب منهما حقناً للدماء، وهو - بالطبع - حكم استثنائيّ لحال الضرورة، أما الأصل فإن الأمة مأمورة بالتمسك بإنفاذ إرادتها وممارسة سلطانها.
ثمّ إنه لا يصح سحب حكم شرعيّ على مسميات غير شرعية، فالمتغلب يقود الناس بكتاب الله، ومن لا يقود الناس بكتاب الله ولا - حتى - يعد الأمة بأن يقودها بكتاب الله، ويصرح برفضه للشريعة ومعاداته للمشروع الإسلامي، فمثل هذا لا يسمى حاكماً بالمعنى الشرعي الذي تترتب عليه آثاره الشرعية، ولو كان حاكماً بالمعنى العام.
ولو كان كل من خرج على إمام شرعيّ بقوة السلاح وجب التسليم له لكونه متغلباً لما بقي للأمر بقتال من بغى قيمة، فقد أوجب الله تعالى على الأمة قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، فإن لم يكن بالمسلمين قدرة على القتال، ولكن لهم قدرة على التغيير بغير القتال، ولديهم آلية يحركون بها الناس فلا يصح أن يثرب عليهم، فضلاً على أن يوصفوا هم بأنهم خوارج.
الواقع الذي يستدعي من هؤلاء المتصدرين حكماً شرعياً صحيحاً هو أنّ قائد الانقلاب ومن معه من العسكر ومن وراءهم من أقطاب الدولة العميقة ومنتفعيها خرجوا على الحاكم الشرعيّ للبلاد، بل خرجوا على الأمة وعلى إرادة الشعب وثورته، ولم يكن خروجهم هذا إلا حلقة في مسلسل اختطاف الوطن وتسليمه لأعداء الأمة؛ لقاء لعاعة من الدنيا، تتمثل في كرسيّ لهذا ومنصب لذاك ومصالح لهؤلاء ومنافع لؤلائك، وهذا أكبر عدوان على دين الله تعالى.
والحكم أنّه يجب على الكافة القيام عليهم ودفعهم بما يندفعون به، فإن كانوا يندفعون بالمظاهرات تعينت، ويحتمل ما يترتب عليها من دماء وتضحيات، لكونها أهون من غيرها وأقل كلفة، ولا يقال هنا إنّ الكف واجب حقنا للدماء لكون حفظ الدين مقدم على حفظ النفس في مقاصد الشريعة، اللهم إلا إذا غلب على الظن اصطلام (استئصال) أعداء الأمة للمسلمين مع عدم إمكان إقامة الدين، فعندئذ يعلق حكم وجوب الدفع ويبقى واجب الإعداد له، ولا يقال عندئذ إنّ هؤلاء حكام متغلبون تجب لهم الطاعة ويحرم الخروج عليهم.
ولا تنسوا أنّ هذا الخروج لم يكن خروجاً على الحاكم الشرعيّ وحسب، وإنما كان خروجاً – كذلك – على حكم كبير من أحكام شريعتنا الغراء، وهو أنّ الأمة صاحبة السلطان، وأنّ الأمر أمرها، فهي التي تولي الحاكم وتعزله وتحاسبه وتراقبه، وهو وكيلها ونائبها، ويحرم الافتيات على هذه الإرادة، هذا حكم ثابت بالأدلة المتوافرة المتواترة، وعلى الأمة أن تقيم هذا الحكم بما تيسر لها من الآليات، فإن تيسرت آلية الاختيار عن طريق أهل الحل والعقد كانت أولى لكونها سنة الصحابة التي دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث وأمرنا بالالتزام بها، وإن لم تتيسر وتيسرت بغيرها من الآليات تعينت، ولا يسقط الميسور بسقوط المعسور إلا إذا سقط العقل في جب الهوى أو الغباء.
ولقد قامت الأمة بهذا الواجب وأنفذت هذا الحكم الفقهي الشرعي وطبقته بحسب ما تيسر لها؛ فاختارت حاكمها الذي أبدى استعداده لتطبيق شرع الله بحسب الإمكان؛ فأقامت باختيارها هذا أوامر شرعية وأنفذت أحكاماً فقهية.
ثم بعد عام واحد قام من لا يمثل الأمة بانقلاب عسكريَّ أطاح به، وعين بدلاً منه من لم تقم الأمة باختياره ولا - حتى كانت تعرفه - وأطاح بدستور اختارته الأمة، ومجلس شورى رضيه الشعب، فلم يهدم الشرعية وحسب وإنما قام بهدم أحكام شرعية فقهية ثابتة كانت الأمة قد أقامتها حسبما تيسر لها.
فتكلموا يا أرباب الفقه، وقولوا لنا من هم الخوارج الذين خرجوا على الحاكم وعلى إرادة الأمة، بل وعلى الأحكام الشرعية التي هي من صلب ديننا العظيم؟! ثم قولوا لنا ما هو الحكم الشرعيّ الواجب حيال ذلك؛ إذا علمتم الحكم الشرعي الواجب في هؤلاء تبين لكم: كم هم رحماء وكرماء من تتزلفون إلى قاتلهم والباغي عليهم بتشريع القتل وإضفاء الشرعية على البغي.
سوف يأتي اليوم الذي تحاسبون فيه في الدنيا قبل الآخرة على ما تمارسونه من قتل وسفك للدماء وتخريب للأوطان بسلاح الفقه الكاذب، ويومها - وهو قريب إن شاء الله - ستعلمون " وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون".