لا تعتبر جدلية السلمية والعنف، وليدة للأحداث الأخيرة الجارية، خصوصاً بعد اندلاع الثورة السورية، والانقلاب على الشرعية في مصر، وحملات التآمر التي تستهدف إقصاء الإسلاميين عن المشهد السياسي، ومحاربة كل ما يتعلق بهم.
بل إن مسألة استخدام العنف، أو القوة المسلحة ضد الحكام الظلمة والمستبدين، موجودة منذ وجود الاستبداد والطغيان، ومنذ وجود شعور العزة والحرية لدى الإنسان، لذا هي مسألة قديمة، لكنها تتجدد بتجدد الأحداث والأزمان.
ومن الناحية الشرعية والفقهية، فإن مسألة استخدام العنف ضد الحاكم، أو الخروج المسلح عليه، من المسائل التي تشغل حيّزاً في الموروث الفقهي لعلمائنا الأجلاء، وهي ورغم اعتمادها على النصوص الشرعية، إلا أنها تأثرت وبشكل واضح بالوضع السياسي الذي عايشه كل فقيه من الفقهاء، وهو ما يبرر اختلاف الآراء بين الفقهاء في هذه المسألة وما يتعلق بها من أمور.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن هذه المسألة بأبعادها الشرعية المترامية الأطراف، إلا أن الجدل الذي يثور اليوم بين أبناء الحركة الإسلامية حول جدوى استخدام السلمية في رفض ظلم السلطة وطغيانها، يستدعي من كل مربٍ وداعية أن يقف على أسبابه وأبعاده.
"كلمات مرشد الإخوان: "سلميتنا أقوى من الرصاص"، كانت بمثابة إعلان صريح عن رفض الجماعة للعنف، والتأكيد على سلمية النهج ومقاومة الانقلاب العسكري"
"سلميتنا أقوى من الرصاص"
بهذه الكلمات المدوية والصريحة، كانت كلمات المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ محمد بديع، إعلاناً صريحاً عن تجديد رفض الجماعة للعنف سلوكاً ومنهجاً، والتأكيد على سلمية النهج ومقاومة الانقلاب العسكري الذي انقلب على اختيارات الشعب المصري. وعلى هذا الأسلوب جرت احتجاجات معارضي الانقلاب بسلمية واضحة، وبمظاهر حضارية راقية، كان أبرزها تلك التي احتضنتها ميداني رابعة العدوية في القاهرة، والنهضة في الجيزة.
لكن العنف والقتل الوحشي الذي أزهق أرواح الآلاف من المصريين، في الميادين والشوارع والجامعات، واعتقال عشرات الآلاف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، جعل البعض يدعون لمراجعة خيار السلمية، بل وأوقع البعض في مشكلة تأييد استخدام العنف والقتل، ونشر الحرب الأهلية، بحجة الثأر من رجال الشرطة والجيش، ومن يساعدهم ويبرر لهم جرائمهم.
كما باتت شبكات التواصل الاجتماعي ساحة تتعارك فيها الأفكار، بين داعٍ للثبات على السلمية، رغم ما يعتريها من قتل وسجن ونفي وتضييق، وبين آخرين يدعون للعنف واستخدام السلاح، ورفض منطق "الاستسلام" الذي يدعوا إليه من يتسم بتغليب الحكمة والهدوء على الاندفاع والحمية وأخذ الثأر ونزع الحقوق انتزاعاً.
بل وأصبح من الواضح جداً، أن يستدل البعض على نجاح خيار "العنف" بتجربة حركة حماس في غزة، حينما قامت بعملية الحسم العسكري، في منتصف يونيو/ حزيران من عام 2007م، وما يحدث الآن على أرض العراق من ثورة مسلحة لأفراد القبائل السنية ضد الظلم الذي يحدث بحقهم.
النظر إلى المآل..
"أثبت الربيع العربي قدرة الجماهير على التغيير، إذا قامت في صعيد واحد على اختلاف توجهاتها وأطيافها، وتوحدت على مطالب واضحة"
لست أنكر أن المنهج الإسلامي العام يقوم على السلمية ورفض العنف في رفض المنكر والظلم، وعلى هذا سار الإخوان المسلمون في موقفهم ضد الأنظمة الحاكمة المختلفة، فهم يرون بضرورة تغيير المنكر سلمياً عبر النصيحة، والمشاركة السياسية بصورها المختلفة، ثم الثورة السلمية عبر الاحتجاجات والاعتصامات والمظاهرات والإضرابات، دون اللجوء إلى العنف وحمل السلاح.
وقد عانى الإخوان المسلمون في مصر من مرارة تجربة حمل السلاح لدى البعض حينما خالفوا أوامر القيادة، فأوقعوا الجماعة كلها في مأزق كبير، وأوقعوا بها البلايا المختلفة، التي كان بالإمكان تجاوزها. وليس هذا مبرراً للسلطة للقيام بما فعلته ضد الإخوان آنذاك، لكن أي سلطة تسعى لاستغلال أي حدث لتبرير سطوتها وظلمها لمعارضيها، فكيف إذا كان ذلك باستخدام السلاح ضدها وقتل بعض أفرادها!!
لهذا فالعنف لا يعتبر من نهج الإخوان، وموقفهم هذا محسوم منذ عقود، ويستحيل أن يتبنوه منهجاً في ظل ما حققته الثورات السلمية من نتائج حيث أسقطت حكاماً وأنظمة، عجز عنها حملة السلاح لعقود عديدة.
إن الربيع العربي أثبت للقاصي والداني قدرة الجماهير على التغيير، إذا قامت في صعيد واحد على اختلاف توجهاتها وأطيافها، وتوحدت على مطالب واضحة، واستطاعت إدارة المعركة بشكل يجمع بين مرونة الاحتجاج وتعدد أشكاله، والثبات على مطالب وتطلعات الشعوب.
لقد كان من فوائد الربيع العربي أن أثبت فشل الخيار المسلح، الذي لم يجلب إلا القتل، وزيادة القبضة الأمنية على الشعوب، وإلحاق الأذى بالمصلحين والدعاة، ومن العبث العودة إلى هذا الخيار بعد ثبوت فشله عن تحقيق مطالب الشعوب، بالإضافة إلى أنه لا يمثل سوى اندفاعية واضحة غالباً ما تتسم بالضبابية وانعدام الرؤية.
وفي هذا الصدد، نجد الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، يتحدث عن مخاطر اللجوء إلى هذا الموضوع لما يترتب عليه من نتائج خطيرة، وهي كما أشار إليها في كتاب فقه الجهاد:
"من مخاطر استخدام الخيار المسلح ضد الأنظمة: إعطاء الذريعة لضرب التيار الإسلامي كله، وقطع الطريق على تيار الوسطية الإسلامية"
1- الخسائر الشخصية، فكثيراً ما يقتل هؤلاء الشباب، ومن لا يقتل يساق إلى السجون ويقضي سنين كثيراً ما تطول، ويتعرض للأذى البدني والنفسي، ويخسر كثير منهم جامعته إن كان طالباً، ووظيفته إن كان موظفاً، وتجارته إن كان تاجراً، وتتعرض أسرته للضياع المادي والأدبي في غيبته. وهذه خسائر كبيرة وحقيقية.
2- الخسائر للدعوة الإسلامية نفسها، في الداخل والخارج، باستغلال حوادث العنف التي تحدث من هذه الجماعات لتشويه صورة الإسلام وأهله، وتصوير الإسلام بأنه خطر على العالم، وتصوير المسلمين بأنهم وحوش، لا قلوب لهم ولا تعرف الرحمة إلى أفئدتهم سبيلاً.
3- إعطاء الذريعة لضرب التيار الإسلامي كله، معتدله ومتطرفه، رفيقه وعنيفه، وقطع الطريق على تيار الوسطية الإسلامية، وما يقدمه من أطروحات للحوار مع الآخر، والتسامح مع المخالفين، وطرح رؤى جديدة في الإصلاح والتنمية، والتغيير السلمي.
4- خسائر على مستوى الوطن، بشغل بعضه ببعض، وضرب بعضه ببعض، بدل أن ينشغل بالتنمية والإبداع وتطوير نفسه، وتجديد شبابه، وتجنيد قواه كلها للمساهمة في نهضته وتنميته ورقيه.
5- خسائر على مستوى الأمة الإسلامية الكبرى، فبدل أن يواجه أبناؤها أعداءهم الحقيقيين، الذين يحتلون أرضهم وينتهكون حرماتهم، يواجه بعضهم بعضاً، وبدل أن يخوضوا معارك البناء والتنمية والتقدم حتى تتبوأ الأمة مكانتها، يخوضون معارك ليقاتل بعضهم بعضاً وبدل السعي لتوحيد الأمة، أو تقريب بعضها من بعض تزداد الأمة تمزقاً وتناحراً، ويذوق بعضهم بأس بعض.
ختاماً قد يعترض البعض على الكلام السابق، بأنه مقبول في حال عدم سفك الدولة لدماء معارضيها، وقمعها الوحشي لهم، كما يجري في مصر وغيرها، وهو ما سنتطرق للحديث عنه في المقال القادم إن شاء الله.
لقراءة الجزء الثاني من المقال... اضغط هنا