في سُورة "الفرقان"، يقول رب العزة سبحانه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30)}، ولئن كان القرآن الكريم، هو كتاب الله المتين، الذي نزل به الروح الأمين، من لدن الله تبارك وتعالى، على قلب محمد "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، حاملاً تعاليم الله عز وجل للبشر، وسُبُل هدايتهم وسعادتهم في الدارَيْن، الدنيا والآخرة؛ فإننا يمكن أن نفهم عِظَمِ الخطب الذي تشير إليه هذه الآية.
وفي مقصود هذه السُّورة، كما يقول الإمام القرطبي، في الجامع لأحكام القرآن، التأكيد على عِظَم القرآن الكريم، والرد على مطاعن الكفار في نبوة رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، والرد على مقالاتهم في ذلك، والتي كان من بينها القول بأن القرآن الكريم من افتراء محمد "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، وإنه ليس من عند الله عز وجل.
ولذلك يقول أهل العلم، إنه من بين أهم دعائم هذه السُّورة، إثبات ألوهية مصدر القرآن الكريم، وأنه منزَّل من عند الله عز وجل، والتأكيد على صدق الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، فيما جاء به من عند الله، من هذا القرآن العظيم.
وهي قضية كُلِّيَّة مهمة لم تركز عليها هذه السُّورة فحسب؛ فالرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، بُعِثَ للناس كافة، بتعاليم الإله الواحد الأحد وشريعته وقوانينه، وهذه الشرائع والقوانين احتواها القرآن الكريم بالأساس، مع السُّنَّة النبوية الشريفة، التي ما نطق بها محمد "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، عن الهوى، وإنما هي بدورها من لدن رب العزة سبحانه.
ولقد ركز أئمة الكفر، سواء في عهد النبوة، وعبر القرون التالية، على التشكيك في مصدر القرآن الكريم، وزعم أباطيل كثيرة حوله، من أجل فضِّ الناس عنه، وفي سُورة "فصِّلَتْ"، يقول الله تبارك وتعالى في هذا: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)}.
والرد الإلهي على ذلك في الكتاب واضح، وفي سُورة "الفرقان" نفسها، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}.
ففي السُّورة، استكمل رب العزة سبحانه، أركان الصورة، فهو يذكر موقف الكافرين من القرآن الكريم، ومن حقيقة نزوله على محمد "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، ثم يرد على هذه المزاعم والأباطيل، ويبيِّن أن الله سبحانه وتعالى، قد أنزل القرآن الكريم على الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" على مراحل، وعلى فترات؛ فرقانًا مبينًا، وذلك لتثبيت القلوب، وحفظه.
وعلى الرغم من خطورة وأهمية هذه المسألة التي عرّجنا عليها بشيء من التفصيل؛ إلا أنه ثمَّة مسألة أخرى أهم وأخطر تتعلق بقضية هجران القرآن الكريم، وهو أن يتم ذلك من جانب المسلمين أنفسهم.
وهَجْرُ المسلمين للقرآن الكريم قضية كبرى في الأزمة الحضارية التي تواجهها الأمة في الوقت الراهن، فالقرآن الكريم هو منبع تعاليم الله عز وجل لعباده، ويحمل شرعته ومنهاجه لهم، ويحمل- كذلك- الرؤية الشاملة الضرورية لفهم صيرورات الحياة الدنيا، والاستعداد للآخرة، ومصائر ومقادير البشر، في الدنيا والآخرة، والأهم، فهم حقيقة دور المسلم، بل وكل إنسان من نسل آدم "عليه السَّلام"، في الحياة الدنيا.
وهناك الكثير من الوثائق التي تتحدث عن مخطط شامل لأعداء الأمة لفصل المسلم عن القرآن الكريم، ومن بين أهمها، ما تسرب عن مؤتمر كلورادو التنصيري الشهير، المنعقد عام 1978م، والذي تم فيه التأكيد على هذه المسألة، باعتبار أن القرآن الكريم هو بوصلة المسلم في حياته، وهو المعين الأول للأمة في مسيرتها الحضارية، ويجعل النظام الإسلامي هو أكثر النظم الدينية والاجتماعية المتناسقة، اجتماعيًّا وسياسيًّا، وعلى كل المستويات الحضارية.
"القراءة وحفظ المتون ليس الوسيلة المثلى لإقامة القرآن الكريم، مع التأكيد- من جانب آخر- على أن القرآن الكريم هو المُتعبَّد بتلاوته؛ وإنما الأهم هو إقامة القرآن الكريم في صدر كل مسلم، وفي سلوكه، وفي مجتمعه"
ولكن.. كيف يكون القرآن مهجورًا من جانب المسلم؟!.. الإجابة القريبة في هذا، هي ألا يقرؤه.. ولكن هذه الإجابة ليست شاملة لكل صور هَجْر القرآن الكريم، ولكن الصورة الأهم، هي هَجْر معاني القرآن الكريم، وتطبيق التعاليم الواردة فيه، في حياة كل مسلم، وفي حياة المجتمع المسلم.
والقضية الأساسية هنا، هي أن القراءة وحفظ المتون ليست الوسيلة المثلى لإقامة القرآن الكريم، مع التأكيد- من جانب آخر- على أن القرآن الكريم هو المُتعبَّد بتلاوته؛ وإنما الأهم هو إقامة القرآن الكريم في صدر كل مسلم، وفي سلوكه، وفي مجتمعه.
وهذا الأمر كان واضحًا وقائمًا في فكر الأوَّلين من السلف الصالح والصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعًا، فليس كل الصحابة، حتى مِن بين مَن عاصروا دعوة محمد "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم" منذ بدايتها، كانوا يحفظون القرآن، ودليلنا في ذلك، المشكلة التي واجهت جماعة المسلمين، بعد معركة اليمامة، والتي استُشهِد فيها الكثير من حفظة القرآن الكريم، فتم تدوينه لأول مرة في صحائف مجمَّعة، خشية ضياعه من الصدور.
فلو كان الحفظ هو المهم؛ لكان كل الصحابة كانوا من حفَظَته، ولكنهم كانوا على إدراك كامل بكيفية التعامل مع كتاب الله عز وجل، وأن الأهم من حفظ المتون- على أهمية ذلك طبعًا- هو تطبيق هذه المتون على كل المستويات، الفردية والجماعية، السياسية والمجتمعية والاقتصادية، وغير ذلك من مجالات.
بل إن أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب "رَضِيَ اللهُ عنه"، كان يرى أن الأصل ليس الحفظ؛ بل تطبيق القرآن الكريم، وإقامة تعاليمه في صدر المسلم، وفي المجتمع، فلم يكن يحفظ كامل القرآن، ورُوي عنه- أيضًا- انه لم يكن يحفظ الجديد منه، إلا بعد تطبيق ما حَفِظَ بالفعل من آيات.
وفي الأخير، فإن هَجْر القرآن الكريم يكون، بجانب هجر تلاوته، بهجر تعاليمه، وعدم تطبيق ما جاء فيه من أحكام وهَدْيٍ من لدُن عزيز حكيم..
والآن، أخي المسلم، فلتسأل نفسه: هل أنت ممَّن يهجرون القرآن، أم يقيمونه في صدورهم، ومِن حولهم؟!..