شعارنا سيفان، يعلوهما قرآن، بينهما أعدوا، تزلزل الأركان، لم تكن مجرد شعارٍ للإخوان، بل هي حقيقةٌ ماثلةٌ للعيان، بكل استطاعتهم أعدوا للعدوان، فكانت غزة رمز عزة وإيمان، فعلى أبوابها انكسر الظلم والطغيان، وتحطم الذل والهوان، فكانت فخراً على رؤوسنا تيجان.
لعل أعظم عبرة من الحرب على غزة، الفهم الحقيقي لقوله تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال:60].
فلقد أبهرت المقاومة الفلسطينية وأبناء كتائب القسام العالم؛ لجهوزيتها العالية واستعدادها للمعركة، فبينما كان يتفاخر أبناء جلدتهم العرب، بأطلاق الألعاب النارية في رأس السنة الميلادية؛ كان أبطال القسام يطورون الصواريخ البطولية، والطائرات التجسسية، وبينما إخوانهم العرب يتسابقون في إعلاء البنيان، كان أبناء المقاومة يحفرون الأنفاق القسامية، ويعدون الكمائن والعبوات الانفجارية، نعم سيكتب التاريخ عنكم يا أبطال غزة، كيف خرجتم لعدوكم من بين أرجلهم، وكيف أنزلتم قواتكم خلف خطوطه، فمن باطن الأرض ظهرتم، وبصواريخ العز؛ عدوكم زلزلتم.
لله دركم يا أبطال المقاومة، كم حبة عرق نزلت من جبينكم وأنتم تصنعون؟ بل كم حبة رمل أخرجتم من الأرض وأنتم تحفرون؟ لقد حيرت عُقُولُكُم مُقاتلي فيتنام!! وأدهش صُمُودُكُم الجزائري المقدام! يقف العالم أمامكم منحنياً احتراماً لمقاومتكم، فأنتم في عالم لا يقدَّرُ فيه إلا القوي، ولا يُحْتَرمُ فيه إلا الذكي، فمنكم نتعلم الاستعداد، وعلى نهجكم يكون الإعداد.
فكيف نطبق كلمة: "وأعدوا" حقيقة وجوهراً كما فعلتم وطبقتم؟
معنى قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم":
قد يفهم البعض من الآية: أنَّ بذل بعض الجهد في الإعداد يكفي لمواجهة العدو، وهذا الفهم غيرُ صحيحٍ، بل المقصود استنفاد الجهد، وبذل كل الوسع، وكامل الطاقة؛ للوصول لأعلى مراتب التهيؤ والجهوزية للعدو، فليس باستطاعته جهد أكبر مما بذله، بل وفوق طاقته، وأرى هذا المعنى متجلياً في المقاومة الإسلامية في غزة هاشم، فمع قلة الحيلة وشدة الحصار ومكر العدو، ظهرت جهوزية واستعداد عاليين من أبناء القسام، لم يتوقعها حتى أقرب الناس إليهم، فالعدو يعترف بأنه يتعامل مع جيش لا يقل كفاءةً وتدريباً عن أعتى جيوش العالم، وما زالت المقاومة في كل يوم تُظْهِرُ مُفَاجَأَةً تُؤَكِدُ هَذِهِ الجُهُوزية الفائقة.
يقول الدكتور محمد النابلسي في تفسيره لمعنى الإعداد: (هذا الفعل، يفيد استنفاذ الجهد، وقد يفهم إنساٌن هذه الآية فهماً على عكس ما أراد الله، بين أن تفهم الآية، في أن تبذل بعض الجهد، و بين أن تفهم الآية، في أن تبذل كل الجهد، المعنى الذي أراده الله عز وجل ليس المعنى الشائع السوقي...) [التفسير المختصر].
ما هي القوة المطلوبة " .. من قوة"؟
ولا يقتصر معنى القوة على ما يرمى، كما يفهم البعض من حديث النبي-صلى الله عليه وسلم- (ألا إن القوة الرمي ...)، [رواه مسلم].
فقد نقل الرازي في تفسيره معنىً جميلاً عن المراد بالقوة فقال: (قال أصحاب المعاني: الأولى أن يقال: هذا عام في كل ما يتقوى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة، وقوله عليه الصلاة والسلام: "القوة هي الرمي" لا ينفي كون غير الرمي معتبراً، كما أن قوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة" و "الندم توبة" لا ينفي اعتبار غيره) [التفسير الكبير- الرازي].
فالمطلوب كل أنواع القوة المتاحة والتي يمكن تحصيلها، ولا يقتصر ذلك على السلاح العسكري بل القوة في جميع جوانبها، فمن القوة: الوصول لأفضل أنواع السلاح وأحدثها، ومن القوة: جمع المعلومات الإستخبارية عن العدو، ومن القوة: إدارة الحرب النفسية والإعلامية باقتدار، ومن القوة: وجود السياسي ذو الحكمة الخبير، ومن القوة التخطيط للمعارك وتجهيز أرض القتال.
ومن القوة: إعداد الجنود المقاومين، بتعميق إيمانهم، وتزكية نفوسهم، وتحسين أخلاقهم وآدابهم، وتقوية أجسادهم؛ بالتدريب والتأهيل والتعليم إلى غير ذلك من أسباب القوة.
والمقاومة الإسلامية في غزة أيضاً أخذت بجميع جوانب القوة المذكورة سابقاً، وزادت على كل ذلك أنها تصنع معظم سلاحها بيدها، فالصواريخ التي ضربت معظم فلسطين المحتلة، صناعة محلية، بل إنها صنعت طائرات من غير طيار، بل وفعلت ما لم يفعله أغلب جيوش العالم، بحفرها الأنفاق التي صدمت العدو، وتكبد بسببها الخسائر الكبيرة.
إرهاب العدو:
إن الإعداد والاستعداد والجهوزية العالية التي أظهرتها المقاومة الفلسطينية أرهبت العدو، وأرعبت جنوده حتى فرَّ أغلبهم كالفئران من أمام ضربات المقاومين، بالإضافة لما لهذا العدو من صفات خاصة فيه، فهم أحرص الناس على حياة، ولا يقاتلون إلا في قرى محصنة، أو من وراء جدر، فعقلية الجدار مسيطرة عليهم، ويكأنّ دبابتهم قرىً محصنةً متنقلة، ومع ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب والمهابة من المجاهدين، فهم يستجدون التهدئة ولن ينالوها إلا بشروط المقاومة الباسلة.
وختاماً.. إنّ ما أظهرته المقاومة من قوة وثبات وجهوزية في ساحة المعركة، قلب معادلة الصراع مع العدو، حتى أنّ بعض قادة العدو اعتبر معركة العصف المأكول معركةً وجودية؛ لأنهم يعلمون أنّ ما بعد هذه المعركة ليس كما قبله.
فلقد ولى الزمن الذي نُضْرَب فيه ولا نَضْرب، أو نُقْصَفُ فيه ولا نَقْصِف، فالقصفُ بالقصفِ والقتلُ بالقتلِ، والدمُ بالدمِ، والرَدُ المزلزل موعدكم، ولن يتوقف إعدَادُنا وسيستمر استعدادُنا؛ حتى ندخل المسجد الأقصى فاتحين.