من بين الركامِ وسُحُبِ الغُبار، من بين نيرانِ القتلِ والغدرِ، يَبحَثُون عن نداء الحياة، يحاولون إنقاذه من براثنِ الموت المحلّقةِ فوقَ رؤوسهم، كأنّهُم يَنتَشلونه من قبره، مع أن أطنانَ التُرابِ والحجارة لا تدل على نجاته من هلاكٍ محقق، وبعد عناءٍ ومكابدةٍ يظهر الطفل سليماً مُعافىً؛ فتنْطَلِقُ صيحات الحمد والتكبير، لقد كُتبت له حياة جديدة.
يقع في قلوبنا الحزن والخوف على إخواننا المسلمين في فلسطين، وغيرها من بلاد المسلمين، من موت أصابهم، أو جراحٍ أثخنتهم، لكن علينا أنّ نحذر من وساوس الشيطان، فلا يسيطر علينا القلق على مآلهم ومستقبلهم، فيزداد تفكيرنا بآجالهم وأرزاقهم.
خوفٌ يدبُ في القلوب، ورعبٌ يسيطر على ضعاف النفوس، وقليلي الإيمان، عندما ينزل الجهاد في بلدٍ، أو يسقط الشهداء في بلد آخر، ويبدأ البكاء والعويل والخوف مما هو قادم، فتقولُ إحداهنّ ذهب للموت برجليه، ويقول آخر ترك عياله من غير رزق ولا مال، لكنها غفلة عن عقيدة تربّى عليها السلف ومن تبعهم من الخلف، إنها عقيدة الرزق والأجل.
عقيدة الأجل:
المجاهدون لهم آجال محددة كما هم باقي البشر، لن يقدم الجهاد عمراً ولن يؤجله، وإنما هي آجال مرهونةٌ بزمنٍ معين منذ خلق الله السماوات والأرض؛ فكتب في اللوح ذلك، قال الله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}[الأعراف34].
ولن ينفع مع الأجل حذرٌ أو حرص، فلا مفر من ذوق طعم الموت، ولو كان أحد ناجٍ منه، لكان أولى به الأنبياء، ، قال ابن عباس: (لما استشهد من المسلمين مَنِ استشهد يوم أحد، قال المنافقون الذين تخلفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ ولو كنتم في بروج مشيدة} [النساء 78]).
ومهما طالت فترة الجهاد، ولربما الحرص على الاستشهاد، فلن يأتي الموت قبل الأجل الموعود، ولعل في موت سيدنا خالد بن الوليد على فراشه بسيف المرض، رغم مشاركته في أكثر من مئة معركة عبرة في ذلك، فقد قال: - رضي الله عنه- لما حضرته الوفاة (لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء).
عقيدة الرزق:
وأما الخوف على الرزق، وضياع العيال من بعد الشهيد، فهو من مثبطات الجهاد والقتال، وعلى المؤمن أن لا يقع في تلبيس إبليس، فليس هو الرازق لعياله وأهله، وإنما هو سبب من الأسباب، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات 22، 23]، وصدق رسول الله - صلى الله عليه و سلم - حين قال: (إن روح القدس نفث في روعي: أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها...)[رواه ابن أبي شيبة].
فإذا استشهد المؤمن جعل الله لعياله سبباً آخر للرزق غيره، ولعل رزق العيال من بعده يزداد ويبارك فيه، فالرزق ليس مرتبطاً بموت أحدهم أو حياته؛ إنما هو فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده، ويزيد وينقص بحكمة منه سبحانه.
قال الشافعي رحمه الله تعالى :
تَوكلْتُ في رِزْقي عَلَى اللَّهِ خَالقي وأيقنـتُ أنَّ اللهَ لا شكٌ رازقـي
وما يكُ من رزقي فليسَ يفوتني وَلَو كَانَ في قَاع البَحَارِ الغَوامِقِ
سـيأتي بهِ اللهُ العظـيمُ بفضلهِ ولو لم يـكن مني اللسانُ بناطق
ففي أي شيءٍ تذهبُ النفسُ حسرة ً وَقَدْ قَسَمَ الرَّحْمَنُ رِزْقَ الْخَلاَئِقِ
ثمن المخاطرة بالحياة والرزق:
لا شك أن القتال فيه مخاطرة بالحياة والرزق، فيحمل المجاهدون أرواحهم على أكفهم، ويرون الموت ماثلاً أمامهم، ومع قربهم من الموت ذلك لا يعني موتهم أو ذهاب رزقهم، لكن الله عوضهم ثمن هذه المخاطرة بالمهج والأرواح والأرزاق وعداً بالأجر العظيم، والفضل الكبير، خاصةً إذا اتخذهم الله شهداء عنده، فقد جاءت الآيات تطمئنهم على حياة أعظم من حياتهم، وعلى رزقِ أفضل من رزقهم، فأرواحهم في جوف طير خضر؛ لها قناديل من ذهب معلقة بعرش الرحمن، ذلك مكان عيشهم، وأما رزقهم فيطوفون في الجنة يأكلون من ثمرها ويشربون من مائها، ولقد تظافرت الآثار على أنه لا يتمنى أحد العودة للدنيا فيموت مرةً أخرى؛ مثل الشهيد، لما رأى من عظم أجره وكرامته عند ربه.
قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون* فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} [سورة آل عمران: 169-171].
وختاماً ... لن يمنعنا الخوف على الرزق، أو المهابة من الموت، من الجهاد في سبيل الله تعالى بشتى أنواعه: بالمال أو النفس أو الكلمة، فالجهاد درع الأمة الحصين، وسيفها المتين، ولن يرد للأمة هيبتها وعزها وسؤددها سوى المجاهدين المرابطين، فقد وهبوا أموالهم وأنفسهم رخيصة في سبيل الله تعالى بأنّ لهم الجنة .
قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111].