لم يكن العدوان الصهيوني الغاشم على غزة مختلفا عن الاعتداءات الأخرى، فقتل الأطفال والشيوخ والنساء والآمنين وهدم البيوت على ساكنيها وتدمير المساجد والمؤسسات العامة والخاصة، وتخريب ما يمكن تخريبه، هو السمة الأبرز لعدوانه وغطرسته، فهو لا يتقن غير سوى لغة القتل والدمار والخراب.
إذ تشن دولة الاحتلال الصهيوني حرباً ظالمة وشرسة بكافة أسلحتها المحرمة دولياً على قطاع غزة دون أدنى شعور بالرحمة أو مراعاة للقيم الإنسانية التي يتغنى بها العالم، في حين أن الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة حماس كانت على جاهزية عالية لصد هذا العدوان، وقد توحدت الفصائل الفلسطينية في موقفها الرافض للعدوان وتمثل هذا التوحد في العمل الجهادي المشترك على أرض الميدان وفي عمليات المقاومة وتوجيه الضربات للاحتلال، وكذلك عقد المؤتمرات الصحفية المشتركة لكافة الفصائل لتؤكد على وحدة الموقف.
"الإعداد والاستعداد الذي أعدته المقاومة الفلسطينية في غزة على جميع الصعد والذي بدا واضحاً في كل الميادين قد أربك حسابات الحكومة الصهيونية ميدانياً وعسكرياً وأمنياً"
جاء هذا العدوان على يد حكومة عنصرية فاشية مرتبكة، سارت إلى الحرب لإرضاء شارعها وناخبها الصهيوني، لأن حكومات الاحتلال تعودت على أن دماء الفلسطينيين هي الثمن لبقائها أو لوصولها إلى سدة الحكم، لكن يبدو أن شيئاً مختلفاً في هذه الجولة من الحرب ألا وهو حال الطرف الفلسطيني المقاوم في غزة، فالإعداد والاستعداد الذي أعدته المقاومة الفلسطينية في غزة سواء على الصعيد العسكري أو الأمني أو الإعلامي أو اللوجستي والذي بدا واضحاً في كل الميادين، قد أربك حسابات هذه الحكومة ميدانياً وعسكرياً وأمنياً.
أما على المستوى السياسي فقد وفر اتفاق المصالحة الذي أبرم في 23 نيسان - أبريل 2014م، والذي عرف "باتفاق الشاطئ" الغطاء السياسي المطلوب لحماية المقاومة، فقد قطع الطريق على كل من يريد عزل المقاومة سياسياً بذريعة أنها حرب فصيل وليس حرب الشعب الفلسطيني، لذا فقد أزال هذا الاتفاق كل المعيقات النفسية وأزال المبررات الواهية أمام الكثيرين من قطاعات الشعب الفلسطيني لتأييد ودعم المقاومة، وبرغم ما عليه من ملاحظات وتحفظات وبرغم ما يعتريه من نقص لكثير من الحيثيات والتفاصيل، فقد رأى البعض أن هذا الاتفاق سيقيّد المقاومة وسيحاول جرّها إلى مربع التسوية ويعمل على تقليم أظافرها وتدجينها لتتساوق مع السياق الاعتدالي العام – إن صح التعبير- إلا أن أعمال المقاومة التي بدأت في الضفة وتدحرجت لتشمل القدس وأراضي فلسطين الداخل ثم انتقالها إلى غزة، دعا بعض الأطراف المهزومة التي كانت تنوي التنصل والتحلل من اتفاق المصالحة إلى إخماد صوتها، رغم ما تحيكه من مؤامرات بسبب صمود المقاومة الأسطوري وحسن أدائها وتعاطف الشارع الفلسطيني معها.
إن ثبات المقاومة في غزة وإبداعها الرائع قد نال إعجاب الشارع الفلسطيني أولا ومن ثم أذهلت جمهور وشارع دولة الاحتلال ثانياً، كما أن التفاف الشارع الفلسطيني وبشرائحه الواسعة والمتعددة حول المقاومة واحتضانه لها لشعوره بالعزة والكرامة يأتي كونها أول مرة يرى الشعب الفلسطيني طرفا فلسطينياً يوجع المحتل ويسقيه من نفس الكأس التي تعوّد أن يشربها الشعب الفلسطيني، ولأول مرة تكون هناك جهة فلسطينية عربية إسلامية تقف في وجه المحتل وتقول له لا، وتبث الرعب والهلع في صفوف مواطنيه أينما كانوا.
"أدى فعل المقاومة وصمودها إلى انحياز الشعب الفلسطيني بكل فئاته شيئاً فشئيًا لها ولنهجها، حتى بدأنا نسمع من بعض قطاعات وأفراد حركة فتح بضرورة دعم المقاومة، بل هناك من دعا إلى أن تراجع حركة فتح حساباتها استنادا إلى المبادئ التي انطلقت لأجلها"
أدى فعل المقاومة وصمودها إلى انحياز الشعب الفلسطيني بكل فئاته شيئاً فشئيًا لها ولنهجها، حتى بدأنا نسمع من بعض قطاعات وأفراد حركة فتح بضرورة دعم المقاومة، بل هناك من دعا إلى أن تراجع حركة فتح حساباتها استنادا إلى المبادئ التي انطلقت لأجلها، وبتنا نسمع التغني بشهداء حركة فتح أمثال أبو عمار وأبوجهاد وأبو اياد، وترى هذه الأصوات أن الشارع مع المقاومة ومن لا يستجيب ويراعي توجهات الشارع سيخسر موقعه وحضوره ويأتي هذا التوجه بعد فشل العديد من جولات المفاوضات التي قادتها حركة فتح كونها تقود السلطة ومنظمة التحرير.
وبناء على ذلك ونحن نعيش لحظات الانتصار والعز والفخار التي تسطرها المقاومة في غزة، فإن الاستثمار السياسي لهذا الحدث لا يقل أهمية عن الإنجاز العسكري، فإن فصائل المقاومة التي خاضت وتخوض غمار هذه الحرب مطلوب منها اليوم أن تستثمر هذا الإنجاز في كافة المجالات سياسياً وميدانياً واجتماعياً وثقافياً وغير ذلك، وهذا لا يكون إلا بخطاب وحدوي يجمع الكل على أساس مشروع المقاومة، لكن دون تخوين أو تشويه لمن يرى غير ذلك مهما كانت رؤيته.
إن حركة حماس ومعها كل فصائل المقاومة يجب أن تنتهج خطاباً فلسطينياً يركز بشكل أكبر على مبدأ الشراكة والوحدة القائمة على أساس الصمود والمقاومة بكافة أنواعها وأن يكون خطابها خطاب المنتصر، دون تشويهه بشتم أصحاب المشاريع الأخرى مهما علا صوتها.
لقد أدرك الشعب الفلسطيني الطريق الصحيح والوسيلة الأنجع في مخاطبة الاحتلال، لكن في المقابل فإن هذا الشعب يحب أن يرى مقاومته وقيادتها تسمو على الجراح وخصوصاً جراح القريب والشقيق، فهذا الشعب لديه الوعي الكافي لتقييم الواقع ومعرفة الحقيقة.