يقول الله تعالى في محكم التنزيل {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)} [سُورة "النِّساء"].. أتت هذه الآية الكريمة إلى ذهنية الكثيرين، وهم يتابعون الصور التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة، ووسائط التواصل الاجتماعي، لحشود غفيرة من اليهود، وهم يفرون إلى الشوارع والملاجئ؛ فرارًا من صليَّات صواريخ المقاومة الفلسطينية الباسلة.
تختلف حرب "العصف المأكول" عن كل ما سبقها من حروب.. نعم هي حرب، وليست عدوانًا إسرائيليًّا فحسب على قطاع غزة؛ فللمرة الأولى- ربما- التي يواجه فيها العدو الصهيوني رد فعل يوازي عدوانه، وهنا المعنى الحقيقي للحرب؛ حيث العمليات سجال، وحيث العين بالعين، والسن بالسن، وهم الظالمون المعتدون!
نزلت هذه الآية في واقعة المناظرة الكبرى التي جرت بين الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، وجماعة المسلمين الأوائل، من جهة، وبين أبي سفيان بن حرب، بعد غزوة "أُحُد"، عندما تفاخر أبو سفيان بالانتصار الذي حققه المشركون في ذلك الوقت على المسلمين.
يومها عاد المسلمون وهم محملون بالجراح المعنوية، التي كانت أقسى على النفس من جراح الأجساد، بينما الألم على الشهداء وعلى الهزيمة أكبر من احتمال الكثيرين، فنزلت هذه الآية تثبيتًا لهم، ودعوة ربانية للمسلمين بملاحقة المشركين في كل مكان.
كان لذلك أبلغ الأثر في دفع المسلمين إلى لملمة جراحهم، والانتفاض في ملاحقة قوى الشر والظلام، مما دفع مشركي مكة في ذلك الوقت، إلى الابتعاد عن المدينة المنورة، التي كانوا ينوون اقتحامها لاستئصال شأفة دولة المسلمين الوليدة، والعودة إلى مكة المكرمة.
{وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ}، أي لا تضعفوا في طلب عدوكم، بل جدوا فيهم وقاتلوهم، واقعدوا لهم كل مرصد.
وهو معنىً أكده القرآن الكريم في اكثر من موضع، من بينها سُورة "التَّوْبَة"، فيقول الله تعالى: {فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [سُورة "التَّوْبَة"- من الآية 5].
و{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ}، أي أنه كما يصيبكم الجراح والقتل والأذى؛ فكذلك يحصل لهم، ولكن الفارق أن المسلمين مولاهم الله، والكافرون والمشركون لا مولى لهم، فقالت الآية: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}.
وذات المعنى جاء في آيات أخرى، ومن بينها آية نزلت في ذات سياق غزوة "أُحُد"، أي ذات السياق الزمني لنزول الآية السابقة، وهي آية: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)} [سُورة "آل عمران"].
وبقفزة زمنية ومكانية مباغتة، من زمن "بدر" و"أُحُد"، ومن أرض الله الحرام، إلى زمن العصف المأكول، وعلى أرض فلسطين التي بارك الله تعالى فيها؛ سوف نجد أن الموقف واحد والمعنى واحد.
وقف ذات يوم قادة الكيان الصهيوني يتباهون ويتفاخرون بقوتهم.. قتلوا الأطفال، واستباحوا الأرض، وطردوا منها أصحابها.. فنهضت جماعة من المسلمين، تدارست عن حق كتاب ربها، واستوعبت ما فيه من تعاليم ودورس، وقامت تواجه العدو، وتقصفه، ثم تهزمه بإذن الله.
هذه الآيات التي نراها بين ظهرانينا الآن، إنما لها أهمية قصوى لا يدركها إلا أصحاب الإدراك والفهم، ومن هم يعلمون معنى معالي الأمور؛ فما يجري ويحدث على أرض فلسطين؛ إنما هو مصداق لما جاء في القرآن الكريم، وهو ما يقود إلى تثبيت النفس على الإيمان، وإلى ملئها بالثقة الكافية واللازمة للعمل وتقديم واجب الشرف والفداء في ساحات الحرب.
كما أن تصديق ما يجري في فلسطين الآن، لما جاء من سنن في كتاب الله، يقود إلى ضرورة المزيد من التدبُّر في القرآن الكريم، وفي سُنن جماعة المسلمين الأوائل، مع ما فيها من دروس وعبر متجددة، تظل فاعلية محتواها إلى يوم الدين.
"ما يجري الآن على أرض فلسطين اليوم يؤكد أن سُنن الله تعالى ماضية على الكيان الصهيوني، كما مضت من قبل على فرعون، وعلى من هو أشد منه، عاد وثمود، وغيرهم من أمم الأولين التي أهلكها الله سبحانه وتعالى، بظلمهم"
إن تشابه الموقفَيْن، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن ما يجري الآن على أرض فلسطين التاريخية، إنما هو جزء من معركة الحق ضد الباطل، والتي بدأت منذ خلق آدم "عليه السَّلام"، وحتى يوم يبعثون، والتي يقول عنها الشهيد سيد قطب، إنها معركة لا تفتر، معركة بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال.
كما أن ذلك يؤكد أن سُنن الله تعالى ماضية على الكيان الصهيوني، كما مضت من قبل على فرعون، وعلى من هو أشد منه، عاد وثمود، وغيرهم من أمم الأولين التي أهلكها الله سبحانه وتعالى، بظلمهم.
والقرآن الكريم ملئ بالآيات التي تتناول ذلك، بشكل عام، أي صراع الحق والباطل، وضرورة انتصار الحق في النهاية، أو بشكل تطبيقي وعملي، على نماذج لأمم طغت، وأباطرة ظلموا، فكانت عاقبتهم الزوال والفناء في الدنيا، وأن يكونوا عبرة وآية لمن خلفهم، والعذاب الأليم المهين في الآخرة، فيقول عن فرعون على سبيل المثال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} [سُورة "يُونُس"].
ولعل الطمأنينة تأتي المسلم الحق، عندما يتعهد الله تعالى بنصرة الحق، وهزيمة الباطل، وأن انتصار الحق، ولو بعد حين؛ إنما هو سُنَّة ربانية نافذة لا راد لها، ومن بين الآيات المعبِّرة عن ذلك في القرآن الكريم، قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)} [سُورة "الأنبياء"].
إنها دعوة الحق للمجاهدين أن استمروا مهما كانت التضحيات، ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون بإيمانكم، كما وعدنا القرآن الكريم، وصدق الله تعالى؛ إذ يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)} [سُورة "النساء"].