الناس في صدمة، كانت صغيرة، كانت ضعيفة، فكيف تصنع ما تصنع؟ وتفعل ما تفعل؟ كلهم راهنوا على موتها في مهدها؟ لكن الصغير يكبر، والضعيف يقوى بنيانه، حاصروها، جوعوها، قتلوا أطفالها، اعتقلوا أحرارها، واغتالوا قادتها ومجاهديها، لكنَّها غزة مُخضعة الجبابرة، ومذلة الأكاسرة، إذا مررت من أرضها ووطئت ترابها وشممت هواءها؛ فارفع رأسك فأنت عزيز، لا مكان هنا للذلة، سجل أنا هنا، أنا نبض العزة، أنا غزة.
إن الناظر لأحداث غزة، وما تسطره المقاومة الباسلة في فلسطين من ملاحم وبطولات وتضحيات؛ ما تعجز العبارات عن وصفه، وإنّ القلم ليكتب هذه الكلمات بمداد من عز وفخر بما صنعه أبطال القسام والمقاومة الفلسطينية، ولا شك أن الفوائد العائدة حتى قبل نهاية المعركة؛ لكبيرة وعظيمة، لمسنا أثر النصر قبل الظفر به، فهذا من بشائره باذن الله تعالى، وهنا أسطر فوائد ومكاسب من وراء هذه المعركة البطولية مع هذا العدو الغاشم.
أولاً: الشعور بالعزة والكرامة عند المسلمين، فواقعنا وتاريخنا القريب مليء بالهزائم والنكسات والنكبات، حتى يئس كثير من الناس من النصر أو حتى إيلام العدو، فتشرَّب الناس المذلة؛ فجاءت المقاومة وأسقت الناس كؤوساً من العز والكبرياء؛ فرفعت رؤوساً وشفت صدوراً، حيث مرّغ المقاومون أنف الصهاينة بالتراب.
ثانياً: بث روح الجهاد والاستشهاد في جسد هذه الأمة المثخن بالإحباطات، فترى كثيراً من المسلمين يتمنون لو أنهم في أرض الجهاد في غزة، بل ويتمنون الشهادة على أرضها، لما رأو من جلد المجاهدين وثباتهم، وصبر أهالي الشهداء.
ثالثاً: أعادت للأمة تماسكها وترابطها، فهي كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فكيف إذا كان هذا العضو قلب الأمة: فلسطين، فالتماسك والترابط عندها؛ أشدُّ وأعظم.
رابعاً: تذكير الأمة بقضية من أهم قضاياها ألا وهي: القدس وفلسطين، خاصة بعد أن انشغل كثير من المسلمين عن فلسطين بمحاربة الظلم في بلدانهم، واستغل العدو هذا الانشغال بالكيد والتآمر على القدس وأهل فلسطين، فرجعت لتؤكد أن مصير هذه الأمة وهدفها واحد.
خامساً: أعطت المقاومة الفلسطينة القدوة والمثال الحقيقي في إدارة الصراع مع العدو، وقيادة المعارك، بحرفية ومهنية عالية، بالإضافة لما أظهرته المقاومة من أخلاقيات وآداب الجهاد والقتال، والانضباطية العالية، والوحدة والتماسك، وتناسي الخلافات الجزئية والجانبية؛ فكانت مواقفهم موقف رجل واحد، فتجربة المقاومة في غزة حريٌ بها أن تدرّس في المدارس والجامعات، ويؤلف بها الكتب والمقالات؛ حتى يفيد منها المجاهدون في كل مكان.
سادساً: الارتباط القرآني مع كثير من مسميات المقاومة الفلسطينية: فاسم المعركة: العصف المأكول، وطائرات المقاومة: الأبابيل، والعبوات: شواظ، ونوع من الصواريخ: سجيل، وهذا فيه إشارة للارتباط الوثيق لهذه المقاومة بكتاب الله تعالى، وفيه رد على العدو الذي يستقي أسماء معاركه من تلموده وتوراته، وفيه إشارة لأهمية الثقافة القرآنية في حياة الأمة الإسلامية.
سابعاً: التوكل على الله حق توكله: فرغم تخلي القريب والبعيد عن المقاومة، بل وتآمر كثير من الظلمة عليها، فهي محاصرة من عدوها وقريبها، مع ذلك كله لا تجد منهم أجمل من قولهم: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، نعم: حسبكم ربكم هو كافيكم من عدوكم، و لن يضركم من عاداكم ولا من خالفكم ولا من خذلكم، هو ناصركم سبحانه وكفى به ناصراً، وكفى به وكيلاً.
ثامناً: أهمية القوة في حراسة الحق: فقوة المقاومة الفلسطينية هي التي أقلقت العدو وسترغمه للخضوع لشروطها، ولم تفعل المفاوضات العبثية في أكثر من عشرين عاماً ما فعلته المقاومة في أيام معدودة، وأشار إلى ذلك الإمام البنا -رحمه الله تعالى- في رسائله بقوله: "و ما أحكم ذلك القائل: القوة أضمن طريق لإحقاق الحق، و ما أجمل أن تسير القوة والحق جنباً إلى جنب"، ورأينا في بلدان أخرى لما غابت القوة عن الحق، كيف تجرأ الباطل على المسلمين فقتّلهم وشردهم وسجنهم.
تاسعاً: أهمية الحاضنة الاجتماعية للمقاومة، فرغم الجراح، وكثرة الشهداء وبشاعة القتل، والتهجير والتشريد، وهدم البيوت على رؤوس الآمنين، إلا أنك تجد أهل غزة يشدون على أيد المقاومين، بل ويحثونهم على الصمود في وجه العدو؛ حتى تتحقق شروطهم، مما دفع العدو للانتقام من المواطنين والتنكيل بهم، لمعرفته أن هذه المقاومة قوتها من حاضنتها الاجتماعية، فأصبح كل أهل غزة في عداد المقاومين، ولا ريب أن صناعة هذه الحاضنة الاجتماعية أخذ جهداً ووقتاً طويلين.
عاشراً: اليقين بالنصر والتمكين عند المقاومين وبث روح التفاؤل، فلا تجد خطاباً للمقاومة أو إعلامها؛ إلا وفيه تأكيد على النصر بإذن الله تعالى، وهذا له أثر في الصمود البطولي لأهل غزة ومقاوميها؛ وإضعافاً للحرب النفسية التي يقوم بها العدو وعملاؤه في المنطقة.
حادي عشر: أهمية الإعداد والاستعداد، واليقظة والجهوزية العالية؛ لدى المقاومة وخاصة كتائب القسام، فكانت المفاجآت التي أربكت العدو وقلبت الحرب ضده.
وختاماً... يا أبطال المقاومة الفلسطينية، يا أبناء القسّام، لقد وُلِدَت القضية الفلسطينة من جديد بفضل جهدكم وجهادكم، لقد أعدتم لأمتكم الأمل بفجر قريب ونصر مجيد، إنّ أمتكم ترقبكم وتتعلم منكم، فمدرسة الجهاد والاستشهاد والكرامة والبطولة هي في أرضكم، أرض غزة، فكأنكم نور بزغ من بين الظلمات، وسراج آضاء للناس العتمات... فهنيئا لكم.. ولأمتكم بكم.