في عالم السياسة يخلط الكثيرون بين مفهومي الإستراتيجية والتكتيك، ويحدث بينهما تداخل يقلب الموازين ويشوِّه الصورة. وفي حالتنا الفلسطينية، رأينا بعضَ الحزبيين الذين يزعمون لأنفسهم الوعي السياسي يتعاملون مع القضية من غير مبادئ، ويتحرّكون دون أن تكون لديهم ثوابت حقيقية، ويدّعون أنّ السياسة ليس فيها أخلاق ولا عقائد، وأنّها قائمة على المصالح المجرّدة فقط، ولعلّهم بذلك يضعون لأنفسهم مبرّرات تراجعهم المتواصل وتنازلاتهم المستمرة.
توجد فئة من الفلسطينيين تعتمد في سياساتها ما يمكن أن نسمّيه إستراتيجية التكتيك، بمعنى أنّهم لا يملكون أيّ ضوابط متفق عليها، وليس عندهم قواعد ثابتة ولا أسس متينة ولا أفكار عليها إجماع، وهم يتنقلون في مواقفهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ فقدّموا الاعتراف بالعدو بعد أن كانوا يتحدّثون عن فلسطين التاريخية ويغنون لها.
وقضية اللاَّجئين شعارٌ يرفع دون مضمون مع استعداد مبدئي معلن للتنازل عن حق العودة، ومن أغرب ما قيل في هذا الشأن: إنَّ هؤلاء قد أعلنوا أكثر من مرّة أنهم يتبنون إستراتيجية السلام وخيار المفاوضات كحل وحيد للقضية الفلسطينية، وهو ما جعل المحتل يجلس آمناً مطمئناً يمارس ألاعيبه في المفاوضات العبثية ويغيِّر الواقع على الأرض لصالحه دون أن يحسب حساباً لردّ فعل الطرف الفلسطيني.
إنَّ الأداء السياسي الفلسطيني الرَّسمي كان سلبياً ومخيّباً للآمال طيلة العقود السّابقة وساده الكثير من التخبّط والعشوائية والتناقض، وكانت تحرّكه المصالح الشخصية ولم يراع تطلّعات الشعب وقناعاته وتوجهاته وآماله، كما أنّه أدّى إلى بعثرة في الأفكار وفوضوية في المشاعر، وهو ما جعل الحليم حَيراناً.
ولم يعد المواطن الفلسطيني يملك ميزاناً واضحاً يحاسب السياسيين عليه، وصارت الثوابت مصطلحاً هُلامياً يفسّره كلّ على هواه، ويكفي أن نتذكر كيف تمَّ تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني بعد اتفاق أوسلو بما أدّى إلى إلغائه عملياً وشطب كل بنوده التي استشهد الآلاف من شعبنا حفاظاً عليها، والمضحك المبكي أنَّ العملية تمَّت بصورة هزلية للغاية وأمام وسائل الإعلام المختلفة، فما ظنّك ببقية المفاهيم الأقل شأناً !
وهكذا لم يعد عند دعاة التسوية أي معنى للإستراتيجية أو المبادئ أو الثوابت، فبات من واجب المقاومة أن تعيد ترتيب الأوراق من جديد، وأن توضح للناس مساحات الثابت والمتغيّر لديها، وفيما يلي مساهمة في هذه المسألة.
الهدف الاستراتيجي للمقاومة هو تحرير فلسطين كلّها من نهرها إلى بحرها وإقامة دولة مستقلة ذات سيادة كاملة تقوم على الحق والحرية والعدالة، بحيث نعيد الحقوق إلى أصحابها؛ وهو هدف لا يجوز تبديله أو تغييره مهما كانت الظروف، ولا أن يتم التثقيف بشيء يخالفه، أوالتنظير لفكرة تناقضه، وهذا الهدف يستلزم رفض الاعتراف بشرعية الاحتلال في جميع الأحوال.
"الهدف الاستراتيجي للمقاومة هو تحرير فلسطين كلّها من نهرها إلى بحرها وإقامة دولة مستقلة ذات سيادة كاملة تقوم على الحق والحرية والعدالة"
وهذا لا يمنع وجود أهداف مرحلية تكتيكية على الطريق تسعى المقاومة لتحقيقها وقد تبذل جهوداً كبيرة من أجل ذلك دون أن تلهيها أو تنسيها أو تخرجها عن الهدف الاستراتيجي الذي يجب أن يظل حاضراً في الأذهان وموجوداً في التعبئة والتربية.
أمَّا الوسائل، فهي قابلة للتغيير والتبديل والتحديث والتقديم والتأخير وفيها متسع للاختيار والانتقاء، غير أنَّ الهدف الاستراتيجي المنشود يحتاج إلى وسيلة أو خيار استراتيجي للتحقيق، ونحن نؤمن أنَّ المقاومة هي ذلك الخيار الذي تدور حوله كل الوسائل والأساليب الأخرى، ولا يمكن لخطوة تكتيكية أن تلغي الخيار الاستراتيجي.
وحماس حركة واقعية مرنة تراعي المتغيّرات الميدانية والتطوّرات السياسية، وموازين القوى المختلفة وتتخذ قراراتها بما يتناسب مع الظروف المحلية والإقليمية، ومواقفها لا تتعامى عن التحالفات الدولية.
وهي من حيث المبدأ مستعدة لفتح الأبواب ومدّ الخيوط والانفتاح الموزون مع الجميع، ونحن لسنا منغلقين على أنفسنا، ونتقن فن الإنصات وحسن الاستماع للآخرين شرط ألاّ يتعارض ذلك مع أهدافنا الإستراتيجية ومبادئنا الأساسية..
قد ننحني للعاصفة مرَّة لنحتمي، وربَّما نواجهها ونعاندها ونصادمها في مرّة ثانية، والمحنة وإن طالت تتيح لنا التحرّك بحرية في دائرة التكتيك، لكنَّها لا تبرّر تحطيم الإستراتيجية أو تجاوز حدودها، فقد كان المسلمون في أول البعثة يعيشون حالة من الضعف والتضييق والملاحقة ومع ذلك رفض النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اقتراحات كفّار قريش بإعطائه الجاه والمال مقابل تخلّيه عن أسس دعوته، وكان هذا موقفه لاحقاً حين كان يعرض نفسه على القبائل طلباً لتأييدهم؛ حيث اشترط بعضهم أن يكون الحكم لهم من بعده واستعد آخرون للدفاع عنه أمام العرب دون غيرهم، فردّهم ردّاً جميلاً دون أن يوافقهم؛ فلم يتنازل عن الثوابت لتحقيق مكسب مرحلي رغم حاجته الشديدة إلى من ينصره في تلك المرحلة.