شُغِلَتْ مصر في السنوات الأخيرة، بمشكلة ذات طابع اجتماعي وقيمي، تفاعلت في الفترة الأخيرة، في ظل حالة الفلتان الأمني والسلوكي التي تعيشها شوارع المدن الكبرى في البلاد، وهي مشكلة التحرُّش الجنسي، والتي بدأت لفظيًّا، ثم تحولت فعليًّا، بما يشمل حالات جرائم اغتصاب كاملة الأركان، بشكل بات يمس الاستقرار المجتمعي في مصر، مع وجود قلق كبير لدى الأسر والفتيات من مجرد السير في الشارع، وليس المشاركة في أنشطة عامة.
ولعل في الصور والمقاطع المرئية التي تنقلها وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة، ما يثير الاشمئزاز، ويثير أيضًا الكثير من التساؤلات حول مدى فاعلية القوانين الوضعية المعمول بها في القضاء على مثل هذه الظواهر والمشكلات.
فالقانون المصري حاسم في قضايا الاغتصاب؛ حيث يصل بالعقوبة إلى حدِّ الإعدام، كما يُوجد مجموعة من النصوص القانونية التي تُغلظ عقوبة التحرُّش، وتُعتبر العقوبات المنصوص عليها في هذه النصوص، ضخمة ومؤثرة بالنسبة للشريحة العمرية والاجتماعية التي يتركز فيها هذا الابتلاء؛ حيث تصل الغرامة إلى عشرات الآلاف من الجنيهات، وعقوبة الحبس إلى خمس سنوات.
ولكن هذه القوانين وغيرها، لم تفِ بالغرض، وتزداد هذه المشكلة عمقًا، وفي حقيقة الأمر، أنها لا تقِف عند حد المجتمع المصري، أو حتى المجتمعات العربية والإسلامية الأخرى؛ حيث هي مشكلة متعمقة في الكثير من المجتمعات، حتى تلك الموصوفة بأنها مجتمعات متقدمة في منظوماتها الاجتماعية، أو متطورة حضاريًّا.
ويشير هذا الأمر إلى حقيقة شديدة الأهمية، وهي فشل الأنظمة القانونية والمجتمعية الوضعية، أي التي هي من صنع واجتهاد الإنسان، في الحد من الظواهر السلبية والمشكلات السلوكية، وخصوصًا التي هي على هذه الدرجة من الخطورة والتأثير.
"ظنت المجتمعات الغربية أنها بإطلاق الحريات، بما في ذلك الحريات الجنسية، وحرية الجسد، وحرية الملبس، في مقابل تشديد العقوبات؛ أنها سوف تكون بمنأىً عن هذه المشكلات، ولكنها فشلت، ولم تزل جرائم الاغتصاب فيها هي الأعلى في العالم"
المجتمعات الغربية حاولت من خلال مسارَيْن أساسيَّيْن، التحكم في هذه النوعية من المشكلات، المسار الأول قيمي ومجتمعي، يأخذ مساقاته في المجتمع من خلال الإعلام ووسائل التربية المختلفة، والثاني هو المسار القانوني، وكلاهما فشل.
فالمجتعات الغربية ظنت أنها بإطلاق الحريات، بما في ذلك الحريات الجنسية، وحرية الجسد، وحرية الملبس، في مقابل تشديد العقوبات؛ أنها سوف تكون بمنأىً عن هذه المشكلات، ولكنها فشلت، ولم تزل جرائم الاغتصاب فيها هي الأعلى في العالم.
والمجتمعات العربية والإسلامية، عندما تحولت في هويتها عن دينها، وعن تطبيق الشريعة، سواء في أنظمتها الاجتماعية أو القانونية والقضائية، واختفت الحدود؛ صارت تعاني من ذات المشكلات التي تعاني منها المجتمعات الغربية، المغرقة في الحضارة المادية.
في المقابل؛ فإن المجتمعات التي طبقت الشريعة، عبر التاريخ، عرفت عنها مدونات الحضارة الإنسانية، أنها كانت الأقل وقوعًا أو تعرضًا لمثل هذه المشكلات، مع تبنها منظومتَيْن أساسيتَيْن من العمل في مواجهة مثل هذه الآفات، من خلال ما أقرته الشريعة الإسلامية التي ارتضاها لنا الله عز وجل.
المنظومة الأولى، هي المنظومة القيمية والأخلاقية، والتي تربي النفس على طاعة الله وخشيته، وتهذبها من خلال الالتزام بمكارم الأخلاق، أما الثانية فهي العقوبات الزجرية المغلَّظة لمن ينتهك حرمات الآخرين أو يستولي على حقوقهم.
والرسالة الأخلاقية في الإسلام شاملة وكاملة، فهي في كل أمر المسلم، حتى عبادته، التي جعلها الله تعالى خالصة له؛ أيضًا جعل فيها عز وجل، تهذيب النفس وتربيتها.. يقول تبارك وتعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [سُورة "العنكبوت":الآية 45].
هذا عن الصلاة، أما الصيام فهو في صلبه، تربيةً للنفس، وتهذيبًا للروح، ووقاية لها من الانزلاق إلى الشهوات، ولذلك فإن الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، حرص على التحريض على الصيام، حتى في غير شهر الفريضة، رمضان، فزاد في نوافل الصيام، كالإثنين والخميس من كل أسبوع، والأيام البيضاء من كل شهر، وهكذا.
والصيام من المعروف أنه امتناع عن شهوتي البطن والفرج في حلال الله، فما الحال في غير حلال الله؟!..
وللرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، حديث نبوي صحيح، يؤكد فيه على هذا الجانب، فيقول: "مَن لَّم يدعُ قَوْلَ الزُّورِ والعملَ بهِ فليس للهِ حاجةً أنْ يدعَ طعامَه وشرابَه" [أخرجه البُخاري والتِّرمذي وآخرون].
والقرآن الكريم والسُّنَّة النبوية بهما الكثير من النصوص التي تؤكد على أن الإسلام إنما نزل برسالة الأخلاق والتربية، فيقول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق" [أخرجه البخاري].
"لم يقف الإسلام عند حد أو مستوى من التربية، بل أسست الشريعة لعدد من الإجراءات التطبيقية الكفيلة بالتصدي لأية انحرافات، سواء فردية، أو يمكن أن تمس الاستقرار المجتمعي ككل"
إلا أن الإسلام لم يقف عند حد أو مستوى التربية، باعتبار أن الشيطان الرجيم يوسوس للإنسان، وهو مخلوق لذلك، وجُبِلَ على غواية بني آدم، وأن النفس أمَّارة بالسوء، ولذلك أسست الشريعة لعدد من الإجراءات التطبيقية الكفيلة بالتصدي لأية انحرافات، سواء فردية، أو يمكن أن تمس الاستقرار المجتمعي ككل، وفق المبدأ الذي قاله عثمان بن عفان "رَضِيَ اللهُ عنه"، من أن الله تعالى يزَعْ بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن.
فالشريعة ومقاصدها، نزلت بالأساس لحفظ مقاصد خمسة، على رأسها حفظ النفس، ومن بينها حفظ العِرض.
والتحرش- وهو قضيتنا الأساسية هنا- زنى، وقد يكون زنى النظر أو اليد أو اللسان، كما قال "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، والشريعة الإسلامية بما ألزمت به المسلم والمجتمعات المسلمة، من قواعد سلوكية، مثل عدم الاختلاط، وغض البصر، وستر العورات، وستر مفاتن النساء، وتقوى الله في جوارح الإنسان بشكل عام؛ فإنها تضع حدودًا لا ينبغي تجاوزها من جانب أحد في هذا الأمر، وإذا تجاوزها فإنه يتعرض إلى عقوبة زاجرة مغلَّظة، تصل إلى حد القتل تعزيرًا في بعض حالات الزنى، حتى ما يتم منه بالتراضي، مثل زنى المحصنات والثَّيِّب.
والآيات والأحاديث في ذلك عديدة، ولكن من بينها ثمة آية لافتة يجب الوقوف عندها مليًّا، في سُورة "المائدة".. يقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)}.
هذه الآية تشير إلى مزية مهمة للشريعة الإسلامية في هذا الذي نقول، فالغرب ومن نحا نحوه من مجتمعات عربية وإسلامية، عندما أطلق الحريات الجنسية، وحرية المرأة في الملبس والتمتع بالجسد، بزعم أن ذلك يحد من مثل هذه النوعية من المشكلات؛ إنما على العكس؛ أطلق لها العنان؛ حيث لم يقف عن أساس أسباب المشكلة.
فسهولة الزنى والملابس الفاضحة؛ كل ذلك يطلق في الإنسان الغرائز الحيوانية، التي من المفترض أن تهذبها طبيعته الإنسانية وفطرته التي فطره الله عليها، وتزداد هذه المشكلة وطأة في المجتمعات العربية والإسلامية، في ظل الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي تعانيها شرائح عريضة، من بينها الشباب؛ فتمنعهم من الزواج وإحصان النفس.
كما أنه- في عقوباته القانونية لمرتكبي جرائم التحرش والزنى- يتغافل عن الجانب المهم الذي أشارت إليه هذه الآية، في سُورة "المائدة"، وهم الطرف المحرِّض على الفتنة، من دعاة الفساد والإفساد، وهؤلاء هم من شددت الشريعة الإسلامية في التعامل معهم بالعقوبة.
ومن ثَمَّ؛ فإننا نرى أن شمولية وفاعلية حلول الشريعة الإسلامية لمثل هذه القوانين، تجعل منها بديلاً أكثر جاذبية من القوانين والإجراءات الوضعية القاصرة التي ثبُت عجزها، ولكن ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع!