في ذكرى غزوة بدر .. هنا مكامن الانتصار

الرئيسية » خواطر تربوية » في ذكرى غزوة بدر .. هنا مكامن الانتصار
غزوة بدر

ليست ذكرى عابرة، أو حدث تاريخي بحت، بل أقل ما نقول عنها بأنها مثّلت قفزة للأمام في التاريخ الإسلامي، بعد سنوات عصيبة اتسم فيها المسلمون بالقلة والضعف والصبر على الظلم والأذى بمختلف أشكاله.

ولست هنا بصدد السرد التاريخي الذي دأب عليه الكثير من الناس كلما مرت هذه الذكرى الخالدة، فهي مسطورة في الكتب بكافة تفاصيلها الدقيقة، والتي تبين كيف انتصرت القلة المؤمنة المحتسبة على جيش المشركين الذي يفوقهم عدداً وعدة.

إنما نحتاج في أيامنا هذه لأخذ الدروس والعبر، خصوصاً في ظل الصراع الجاري بين الحق والباطل، بين أولئك المظلومين الذين تحملوا جميع صنوف الأذى في سبيل الله، وبين سادات القوم وكبرائهم، الذين طغوا وتجبروا وملؤوا الدنيا بظلمهم وأذاهم.

من الذلة إلى العزة

لقد جاء هذا النصر المؤزر من رحم المعاناة، وبعد حالة من قلة العدد والعدة، كما بينها الله سبحانه في قوله: {ولقد نصركم الله في بدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون} [آل عمران:123]. فكان النصر نقطة تحول في التاريخ، رغم استحالة وقوعه عسكرياً، ومن يتأمل الفرق الشاسع بين عدد وعدة المسلمين وبين المشركين يجد أن النصر كان صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً!

"لقد أراد الله أن يبين للناس، أن الخطط والرؤى والتوقعات قد تسير نحو منحى معين، إلا أن إرادته ومشيئته قد تغير المجريات لحكمة يريدها هو عز وجل، فتجلب للمسلمين من الخير ما لا يتوقعونه أو يخطر ببالهم"

لم يكن المسلمون مستعدين لخوض غمار تلك المعركة، فما خرجوا إلا للسيطرة على القافلة، إلا أن إرادة الله أحكم، في أن ينال المسلمون من المكاسب أضعاف ما سينالونه لو أخذوا ما في القافلة من مال ومتاع.

لقد أراد الله أن يبين للناس، أن الخطط والرؤى والتوقعات قد تسير نحو منحى معين، إلا أن إرادته ومشيئته قد تغير المجريات لحكمة يريدها هو عز وجل، فتجلب للمسلمين من الخير ما لا يتوقعونه أو يخطر ببالهم.

مكامن الانتصار
كما قلنا سابقاً، فإن غزوة بدر ليست قصة تاريخية تقرأ على الناس دون فهم لأبعادها ودروسها المستفادة، خصوصاً وأن الأمة في مرحلة مخاض حقيقي، وأمام تحولات تاريخية ستؤدي إلى كتابة تاريخ جديد لهذه الأمة بعد عقود من الهزيمة والذلة.

إن غزوة بدر تمثل منهلاً للمرابطين والثابتين على المبادئ، وتعطيهم العزيمة والأمل على تحقيق الانتصار المدوي الذي يعتبر مستحيلاً في نظر الكثير من الناس.

عموماً، لو تأملنا في أبرز مكامن انتصار المسلمين في تلك الغزوة المباركة، فإننا سنصل إلى أمور كثيرة، أذكر منها:

1- قوة الإيمان والعزيمة، فانتصار المسلمين جاء بعد سنوات عديدة من الإعداد الإيماني والتربوي للصحابة رضوان الله عليهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام سعى في المرحلة المكية لترسيخ الإيمان في النفوس؛ كي تتسم بالثبات على مواقفها وعدم التحول أو الاستسلام عند أول ابتلاء، لذلك لم يدع إلى قتال المشركين في بداية الأمر، وإنما انتظر أمر الله بعد أن أصبح المسلمون أقوياء في دينهم، وأصبحت نفوسهم تتوق إلى تحقيق عزة الإسلام وانتصاره. ولذلك فإن كل ما حققه الصحابة من بطولات وثبات وتضحيات هو نتيجة طبيعية للتأثر الإيماني والتربوي الذي غرسه فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- اللجوء إلى الله تعالى، والرغبة فيما عنده، فالنصر من عند الله، والتوكل عليه واللجوء إليه هو أحد المفاتيح الرئيسية لنيل الانتصار، وقد ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة يوم بدر ثم مد يديه وجعل يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" حتى جاء أبو بكر وقال له: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.

"اللجوء الله تعالى والتزام أوامره يؤدي إلى تذليل كل المصاعب ويزيل كل الفروقات مع العدو، فالله لا يضيع عباده بل هو معهم يؤيدهم وينصرهم ويعزّهم"

لقد كان لجوء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل درساً للمؤمنين السائرين من بعده، أن النصر لا يكون إلا من عند الله، وأنه على قدر اللجوء إليه والتوكل عليه يكون الانتصار، ولذلك يقول الله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم} [آل عمران:124-126]. وفي هذا الصدد أيضاً، فإن اللجوء إلى الله تعالى والتزام أوامره يؤدي إلى تذليل كل المصاعب ويزيل كل الفروقات مع العدو، فالله لا يضيع عباده بل هو معهم يؤيدهم وينصرهم ويعزّهم.

3- الاستعداد العسكري الجيد: حيث لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطاب الإيماني والتربوي فحسب، بل أعد صحابته رضوان الله عليهم بدنياً ونفسياً للجهاد في سبيل الله، من خلال السرايا التي بعثها، والتي أكسبت المسلمين خبرة عسكرية، وأظهرت لديهم مدى استعدادهم للحرب ضد الكفر وأهله. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن الصدام بين الحق والباطل لابد أن يحدث عاجلاً أو آجلاً، فقريش لن ترضى أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم دولة قوية، وهي ستسعى لإفشالها بشتى الطرق، ولذلك كان يعد صحابته رضوان الله عليهم لهذا اليوم.

4- وحدة الصف والالتفاف حول القيادة، وهذه نتيجة طبيعية لقوة الإيمان والتربية، فقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم قبل الغزوة، ليعلمهم بأهمية رأيهم وخطورة الموقف، فكانت إجاباتهم تعكس مدى صدقهم، ونجاح تربيتهم، ووحدة صفهم، فهذا المقداد بن عمرو يقول: (امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون). وهذا سعد بن معاذ سيد الأنصار يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله).

5- حسن التخطيط لمجريات المعركة، فلا توجد أية منافاة بين التوكل على الله والتخطيط الجيد للمواجهة مع العدو، ولذلك أخذ النبي صلى الله برأي أحد جنوده حينما أشار على النبي بالتواجد بجانب الماء، وردم آبار الماء الأخرى حتى يمنعوا المشركين من الماء، وبالتالي يحققوا تفوقاً نوعياً على العدو.

"الأصل أن يصاحب الإعداد الإيماني والتربوي، والتجهيز والتخطيط العسكري، خطاباً تعبوياً يرفع من عزيمة الأفراد، ويثبتهم في الميدان"

6- تعبئة الروح المعنوية للمسلمين، فالأصل أن يصاحب الإعداد الإيماني والتربوي، والتجهيز والتخطيط العسكري، خطاباً تعبوياً يرفع من عزيمة الأفراد، ويثبتهم في الميدان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قبيل الغزوة: "سيروا على بركة الله، وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله كأني الآن أنظر إلى مصارع القوم". وفي هذا درس للقيادة في أية مواجهة، أن تبث لكل جنودها رسالة النصر والتبشير، وهذا الأمر سلاح مهم لا يقل أهمية عن الأمور السابقة.

إننا اليوم وفي ظل ما نشهده من صراع بين الحق والباطل، خصوصاً في فلسطين المحتلة، حيث يضرب أبطال القسام وكافة الفصائل من صور البطولة والإبداع، مدعوون لدراسة هذه الغزوة وغيرها مرات عديدة، بروح جديدة، روح النصر والتحرير والعزة، روح قرب تحرير فلسطين ودحر اليهود عن أرضها ومقدساتها، وهو بإذن الله قريب، إن أحسنا التعامل مع هذه السنن، وسرنا على ذات المنهج الذي رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …