"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"
خارطة القيم الرمضانية خارطة عميقة متشعبة تتشابك مع جوانب كثيرة في حياة المؤمن، سواء كانت روحية أو فكرية أو ثقافية أو اعتقادية أو اجتماعية أو غير ذلك من جوانب حياة الفرد، ونحن نحاول في هذه العجالة أن نقف على طرف من خارطة القيم هذه، ونقرأها قراءة حركية، بحيث نقف على جزء من تشعبات هذه الخارطة القيمية الممتد في البنية الحركية للمسلم الملتزم، فرمضان له أثره الخاص في المسلم العادي، يحدث من التحولات في حياته الشيء الكثير، وكذا في الأمة المسلمة، بل إن رمضان شهر التغيير فعلا، سواء على صعيد الفرد أو على صعيد الأمة، وهو كذلك مع الأخ الملتزم، أكثر أثرا وإحداثا للتحول، على المستوى العام في حياته، وعلى المستوى الحركي أيضا، ولنقف على بعض القيم الرمضانية ونقرأها قراءة حركية لعلنا نستكشف انعكاساتها في خارطة المفاهيم والقيم الحركية للأخ الملتزم:
١- التقوى هي القيمة الرمضانية الأهم، بل هي الجذر الذي تنبت منه شجرة القيم الرمضانية، وإليها يعود وبها يرتبط كل ما يحدثه رمضان في المسلم، ومفهوم التقوى شامل ومتنوع ومتداخل مع كثير من المفاهيم والقيم الايمانية والحركية كذلك، والمفهوم الأقرب إلى نفسي ونفوس الكثيرين-فيما أظن- ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سأل أبي بن كعب رضي الله عنه قال: ما التقوى؟ قال: يا عمر إذا سرت يوما في طريق فيه شوك، ماذا فعلت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى يا عمر.
فقيمة التقوى بهذا المفهوم يتفرع عنها العديد من المفاهيم والقيم الحركية أهمها المثابرة والإصرار وتخطي العقبات، والحذر. فما أحوجنا هذه الأيام لاستلهام هذه القيم، لأن بعض الملتزمين قد يتسرب إليه بعض اليأس والتردد في ظل ما يتعرض له المشروع الإسلامي من مؤامرات وإحباطات وإخفاقات، وإن كانت معركة المقاومة في فلسطين قد بددت معظم ذلك بفضل الله وبثت الأمل من جديد، أقول فإن القيمة الحركية الأهم هي الاجتهاد والمثابرة في التمسك بالفكرة والعمل لها، والسعي لتحقيق الأهداف، وتجاوز العوائق والعقبات مهما عظمت، يضاف إلى هذا، الحذر، فالاجتهاد والتشمير العمري هنا هو الحذر من الأشواك في الطريق مع الجد والمثابرة، وما أحوجنا إلى هذا الحذر، الحذر من العدو، والحذر من المنافقين والمشككين، والحذر من المتربصين والمخذلين، والحذر من أمراض وآفات الطريق بدءا من الفتور إلى التقاعس إلى تنكب الطريق وغير ذلك من الآفات والأعداء.
"الأخ الملتزم يحتاج أن يتوقف أمام حقيقة التزامه، بما أمر الله أولا وهذا مهم في بناء الأخ الحركي، وملتزم بما يحقق مصلحة جماعته التي ينتمي إليها، ملتزم بقراراتها ولوائحها، وملتزم باتخاذ المواقف التي تحقق مصلحتها وأهدافها"
٢- الالتزام: وقيمة الالتزام من أعظم وأهم القيم الحركية، كما نجدها من أبرز ما يتجلى من القيم الرمضانية، فعنوان رمضان الالتزام بما أمر الله سرا وجهرا، يبدأ الإمساك عن المفطرات التزاما بأمر الله، ويفطر بأمر الله، ومن يدري البشر أن فلانا صائم أو مفطر في الحقيقة، ولذلك كان أجر الصوم متميزا عن غيره من العبادات "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، وكذا الأخ الملتزم يحتاج أن يتوقف أمام حقيقة التزامه، بما أمر الله أولا وهذا مهم في بناء الأخ الحركي، وملتزم بما يحقق مصلحة جماعته التي ينتمي إليها، ملتزم بقراراتها، وإن خالفت هواه ورغباته، حتى وإن كان وحده، ملتزم بلوائحها، وملتزم باتخاذ المواقف التي تحقق مصلحتها وتحقق أهدافها.
٣- السمع والطاعة: فقيمة الطاعة في الصيام من القيم الظاهرة دون شك، وهي في جنب الله طاعة مبصرة، فيما أرى، بمعنى أن المؤمن يطيع أمر الله ويلتزم به، وهذا لا يمنعه من السعي لإدراك حكم الصوم ومعانيه، على أن عدم إدراك هذه المعاني والحكم لا يمنعه من الطاعة والسمع، فنحن نصوم امتناعا وإفطارا منذ الفجر حتى الغروب ومن بداية رمضان إلى نهايته، ولو أن أحدا تساءل لماذا رمضان وليس أي شهر آخر؟ ولماذا الشهر كاملا وليس أسبوعا منه مثلا؟ ولماذ الامتناع عن كل المفطرات وليس بعضها؟ وغير هذا من التساؤلات التي يمكن أن تثور ولا حرج في البحث عنها؟ وعن حكمها وغيرها، ومع ذلك فلا يخطر ببال مسلم أن يتوقف عن الصوم ولا يطيع حتى يدرك الحكمة؟ إذن هي الطاعة بجوهرها وحقيقتها ولذاتها، ويجب أن نقر هنا قبل إسقاط هذه القيمة على بعدها الحركي، أن هناك فرقا بين الأمر الإلهي المعصوم والأمر البشري الذي يعتريه الخطأ.
ومع ذلك فالسمع والطاعة في فهم الأخ الملتزم يدندن حول هذا ولا يخرج عنه، فطاعتنا كما تعلمنا وتربينا فيما لا معصية فيه، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولكنها أيضا طاعة مبصرة لا مانع فيها من التساؤل والبحث عن الحكم والمقاصد، ولكنها طاعة لجميع القرارات، دون تردد سواء أدركنا حكمتها أم لم ندرك، عرفنا سياقها أم لم نعرف، أعطينا تفاصيلها أم لم نعط، إذ لا جماعة بلا إمارة، ولا إمارة بلا طاعة.
٤- الوحدة والانتماء: فلا تخفى على أحد قيمة الوحدة والانتماء إلى الأمة من خلال الصوم ولا تحتاج إلى تنظير كبير لتوضيحها، ولكننا نحتاج أن نتذكر قيمة الانتماء إلى جماعتنا كجزء من هذه الأمة، وقيمة الوحدة فيما بيننا، فقد اجتمعنا ابتغاء الخير لهذه الأمة، وما أحوجنا أن نكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، نعزز عوامل الوحدة ونقويها، ونوقف عوامل الفرقة والتمزيق والانقسام والضعف، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، فلنحفظ األسنتنا عن إخواننا في رمضان وغيره، كما نحفظها عن جميع المسلمين، ولتتوحد مشاعرنا ولنكن إخوة متحابين، لا يبيت أحدنا إلا وصدره سليم على إخوانه بل يدعو لهم، بل يحرص على أن يؤثرهم على نفسه، "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة".
يتفقد إخوانه ويحنو عليهم ويخلف أخاه في أهله ويستوصي بهم خيرا. فكلنا على ثغرة جهاد تستحق أن نسعى لنيل أجر المجاهدين. فوحدتنا مصدر عزتنا، وليس ثمة لعاعة من لعاعات الدنيا تستحق اختلافنا وفرقتنا.
ولنكن مبادرين تجاه بعضنا وتجاه جماعتنا، لا ننتظر أن يبدأنا إخواننا بالخير والمحبة حتى نبادلهم إياه، بل نبادؤهم المحبة والأخوة والرعاية، نتفقدهم كما نتفقد عموم المسلمين في رمضان، وليكن كل منا ركيزة يحمل المسؤولية تجاه جماعته وإخوانه، فما أحوجنا إلى الركائز والرواحل.
٥- زكاة التزامك: فالمال يزكى، والصيام يزكى بصدقة الفطر، والعلم يزكى بالتعليم والتأليف، والالتزام يزكى ببذل الجهد الدعوي، والحرص على حمل الفكرة للآخرين، ودعوتهم للالتزام كما التزمت، وللشعور بنعمة الله عز وجل كما شعرت بها، ولعل شهر الزكاة هذا من أفضل المواسم التي تستثمر حتى لزكاة الالتزام والانتماء، ولا أظنكم تختلفون معي في أنه لن يزكي التزامه إلا من كان يشعر بأن هذا من نعم الله عليه، وأن الله اصطفاه لهذه المهمة اصطفاء، وشكر هذه النعمة يكون بإيصالها إلى مستحقيها، لتنبض قلوبهم بالحياة كما نبض بها قلبك.
والقيم الرمضانية التي تحتاج منا التامل أيها الإخوة، أكثر من أن نستوعبها في هذا المقال، ولكن فلنجعل من رمضان مدرسة حركية، ترفع شأننا وتوحد صفنا، وتزيدنا قربا من الله فنحن نتعبد الله بانتمائنا. فله الفضل والحمد والمنة.