قال ابْنُ عَطَاءِ اللهِ السكندري: «إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ فَانْظُرْ فيمَاذا يُقيمُك».
وقال بَعْضُ الْعَارِفِينَ: «إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَك عِنْدَهُ فَانْظُرْ فِيمَا يُقِيمُك مَتَى رَزَقَك الطَّاعَةَ».
إنه منهج حكيم لمن يريد أن تصح علاقته بالله تبارك وتعالى: أن يراقب الإنسان نفسه وأعماله؛ ليتأكد من صحة مسيرته، وليستشرف علامات هدايته، فإن كان في الطريق الصحيح شكر ومضى، وإن كان على غير ذلك تدارك انحرافه وصوب مسيرته، والمقياس الذي تقيس عليه سلامة الطريق هو القرآن العظيم، فهكذا كان الصحابة والسلف الصالح يعرضون أنفسهم وأعمالهم على آياته الكريمة، فيدركون حقيقة حالهم ويتبينون مواقع أقدامهم.
الأحنف بن قيس يلتمس ذكره في القرآن
أخرج الإمام أحمد في الزهد عن الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه قَالَ: عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى الْقُرْآنِ، فَلَمْ اَجِدْ نَفْسِي بِشَيْءٍ أَشْبَهَ مِنِّي بِهَذِه الآيَهِ: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ).
أما قصة هذا العرض وتفاصيله فقد نقلها محمد بن نصر المروزي: عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا، فَعَرَضَتْ لَهُ هَذِهِ الْآيَةُ (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، فَانْتَبَهَ فَقَالَ: «عَلَيَّ بِالْمُصْحَفِ، لِأَلْتَمِسَ ذِكْرِي الْيَوْمَ حَتَّى أَعْلَمَ مَعَ مَنْ أَنَا وَمَنْ أُشْبِهُ».
فَنَشَرَ الْمُصْحَفَ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ. وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
قَالَ: فَوَقَفَ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَسْتُ أَعْرِفُ نَفْسِي هَهُنَا».
ثُمَّ أَخَذَ فِي السَّبِيلِ الْآخَرِ، فَمَرَّ بِقَوْمٍ (إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتَنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ).
وَمَرَّ بِقَوْمٍ يُقَالُ لَهُمْ (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرٍ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ).
قَالَ: فَوَقَفَ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِنْ هَؤُلَاءِ».
قَالَ: فَمَا زَالَ يُقَلِّبُ الْوَرَقَ وَيَلْتَمِسُ، حَتَّى وَقَعَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ».
أي أعدُّ نفسي من هؤلاء الذين خلطوا عملًا صالحًا بعملٍ سيءٍ ويرجون مغفرةَ الله لهم.
مطرف بن عبد الله يعرض نفسه على آيات القرآن
قال التابعي الجليل: مُطَرِّفُ بنُ عبدِ الله بن الشِّخّير رحمه الله: «إِنِّي لَأَسْتَلْقِي مِنَ اللَّيْلِ عَلَى فِرَاشِي، فَأَتَدَبَّرُ القُرآنَ، وَأَعْرِضُ عَمَلِي عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَإِذَا أَعْمَالُهُمْ شَدِيدَةٌ (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، (يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً) فَلَا أَرَانِي فِيهِمْ.
فَأَعْرِضُ نَفْسِي عَلَى هَذِهِ الآيَةِ (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) إلى قوله (نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) فَأَرَى القَوْمَ مُكَذِّبِينَ.
وأَمُرُّ بهذِهِ الآيَةِ (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَأَنْتُمْ يَا إِخْوَتَاهُ مِنْهُمْ».
وإذا كان هذا نظرَ الصحابة والتابعين فأين نحن من هذا الجيل الكريم؟!
شيخنا العدوي يعلمنا كيف نعرض أنفسنا على القرآن
كان شيخنا المربي الجليل محمد العدوي رحمه الله من الرعيل الأول من الإخوان المسلمين بالمنصورة، وكان من توجيهاته التي أذكرها عنه للأخ حين يقرأ ورده من القرآن ما معناه:
إذا قرأت وردك من القرآن فأحضر قلما وأوراقا، واتبع ما يلي:
إِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ فَدَوِّنْهُ فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَان (الأوامر).
إِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا نَهْيٌ مِنَ اللهِ فَدَوِّنْهُ فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَان (النواهي).
وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال المؤمنين فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَان (صفات وأعمال المؤمنين).
وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال الكافرين فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَان (صفات وأعمال الكافرين).
وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال المنافقين مِنَ اللهِ فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَان (صفات وأعمال المنافقين).
وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال أهل الجنة فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَان (صفات وأعمال أهل الجنة).
وإِذَا مَرَرْتَ بِآيَةٍ فِيهَا صفة أو عمل من صفات أو أعمال أهل النار فَدَوِّنْها فِي صَفْحَةٍ بِعُنْوَان (صفات وأعمال أهل النار).
وهكذا تتدبر ما تقرأ وتضع له العناوين المناسبة، من وصايا وآداب ومواعظ وأحكام... إلخ.
فإذا انتهيت من قراءتك فاعرض نفسك وأعمالك على ما دوَّنتَه، فانظر كم أمرًا نفذتَه، وكم نهيًا اجتنبتَه، وكم صفةً من صفات أهل الإيمان تحققتَ بها، وكم صفةً من صفات أهل الكفر والنفاق تخلصتَ منها، وكم سببًا من أسباب استحقاق الجنة حققتَه، وكم سببًا من أسباب استحقاق النار تخلصتَ منه، وكم وصية من الله نفذْتَها، وكم أدبًا تحققتَ به.
وعندئذٍ تستطيع أن تعرفَ مقامَك، وأن تحدد ما ينبغي عليك فعلُه أو اجتنابُه.
هذا معنى ما فهمتُه من شيخنا رحمة الله عليه، وإن لم يكن بحروفه وكلماته، وهكذا كانت تربيةُ الإخوان المسلمين على القرآن الكريم.