أقلام فارغة

الرئيسية » خواطر تربوية » أقلام فارغة
articles-on-writing

القلم يعبر عن صاحبه، فهو لسانه الصامت، الذي يتكلم حبراً، وتسمعه العيون إذ تقرأ، ومداد القلم ليس بمحبرة ترافقه، وإنما مداده ما سال من عقل صاحبه فأوحى فيه من وحيه وأنار فيه من بصيرته، فالقلم يكتب ما يملى عليه من عقل صاحبه، ولا ننسى أن الله عز وجل قد أقسم في كتابه الكريم بالقلم حيث كانت السورة باسمه: {ن والقلم وما يسطرون} [القلم:1]، وفي الراجح أن هذا الموضع هو الثاني نزولا بعد مطلع العلق، ولا تستغرب أن يبدأ ربنا بنا أول أوامره بالقراءة، ثم يقسم بعد ذلك بالقلم وما يكتب الكاتبون.

فالكتابة عبر التاريخ هي وسيلة تعبيرية لما شكلته التجارب في عقول الخبراء والحكماء والمرشدين والمصلحين والعلماء، ولا كتابة بلا قراءة، وكما الترتيب في القرآن يكون الترتيب في شأن القراءة والكتابة، وكما نقل أحدهم عن الكاتب طه حسين أنه قال: "مشكلة كتابنا اليوم أنهم يكتبون أكثر مما يقرأون!".

وهنا تكمن الطامة ويزيد البلاء، فالقارئ المقل كثير الكتابة سيكثر خطؤه، ويقل صوابه ودقته، فكلما قل مقدار القراءة، قل مقدار الثقافة، وقلت الكفاءة، وانحسرت الخبرة، وزاد التعبير عن الرأي الشخصي فقط، والرأي الشخصي لقليل الخبرة وقليل الثقافة ما هو إلا كلام صادر عن هوى، لا بينة فيه ولا علم، لا تجربة فيه ولا تمحيص، بل حتى معجم ألفاظه سيكون محسوراً ضئيلا، تتكشف عورة كلامه ويبان عواره من أول سطور؛ فالقلم كالمغرفة والعقل هو الإناء، فكلما امتلأ الإناء أكثر، كان الاغتراف أسهل وأيسر، وأينما مددت مغرفتك خرجت بالنفع والفائدة العظيمة، وكلما قل صعب أن تجد الكثير والجديد، وإذا كان ضحلاً؛ فإنك ستعرف ضحالة الإناء من صوت المغرفة في قعر الإناء، هكذا القلم يبدي ضعف صاحبه من سطوره الأولى.

"القلم كالمغرفة والعقل هو الإناء، وكلما امتلأ الإناء أكثر، كان الاغتراف أسهل وأيسر، وأينما مددت مغرفتك خرجت بالنفع والفائدة العظيمة، وكلما قلّ صعب أن تجد الكثير والجديد، وإذا كان ضحلاً فإنك ستعرف ضحالة الإناء من صوت المغرفة في قعر الإناء"

ولقد ظهرت في عصرنا الحالي آفة قاتلة للفكر ملوثة للثقافة، متعدية على العلم والحكمة، أصابت شباب أمتنا قبل شيبها وصغارها قبل كبارها؛ كل من "سجع" بكلمتين وسطرين ظن نفسه كاتبا عميقاً يخرج الكلام عن صورته ليدخل في كينونته التعبيرية التي تستطيع أن تسير عبر سيالات العقل العصبية لتشكل صورة مرسومة بأحرف من ذهب، وللأسف في الحقيقة إنما هو درج الكلام غثه وسمينه، نافعه وعديمه، كبيره وصغيره، أدبه وبساطته، تجميع بلا ترتيب، ونقل بلا تمحيص، وتفريغ بلا معنى، كل هذا تراه في كلمات تتلألأ عبر السطور بظن صاحبها أنه قد كتب فأبدع، وأنه بات الأديب الأريب، إلا أنه لم يعلم بعد أن ما كتبته يداه ما هو إلا فراغ في فراغ، وترى بعضهم يصعب في كلماته ويعقد من تصويراته ظانا نفسه أنه يلفت الأنظار ويسلب العقول وينثر المعاني بحسب ما يريده هو لا ما يريده القارئ.

قديما قال العلماء: إن آفة العلم هي أنصاف العلماء.
فكيف أرباعهم وأعشارهم، وكيف أنصاف الكتّاب بل وأعشار ربع أعشارهم؟

إن الكتابة هي علم بحد ذاته، علم له أصوله وقواعده، له قويه وضعيفه، ولذلك عرفت العرب قديما ما يسمى بالنقاد، وهؤلاء النقاد لم يعملوا في الشعر فقط؛ وإنما كان نقدهم للعشر والنثر.
ولقد رأينا في ما مضى من الناس من يتقن ركوب بحار الشعر بتفعيلاتها ورجزها وطويلها إلا أن معاني ما كتب لا تساوي في الأدب أو الحكمة ثمن الحبر التي كتبت به؛ فها هو الشاعر يقول:
كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء
وكثير ممن يكتبون هذه الأيام لا يخرجون من هذه الدائرة الضيقة، فلست تعلم هو الماء من حوله أم هو حول الماء لا يزال يدور.

وقديما لم يكن الشاعر الفحل يخرج قصيدته للناس على متانتها وقوتها وجزيل عبارتها وروعة معانيها ودقة صورها إلا بعد مرور عام كامل على كتابتها، ومراجعتها وتنقيحها، وربما عرضها على من هو أخبر منه في هذا المجال، كي يقدم للبشرية والإنسانية أدبا يستحق أن يقرأ وأن تتناقله الألسن أعواما عديدة.

أخي القارئ.. إن رأيت في نفسك ميولا للكتابة أو مَلَكة لها فلا تتعجل على نفسك، واصقلها؛ فإنك لا تزال تميل إلى الكتابة ولم تصبح بعد كاتباً، عليك بدراسة المدارس الأدبية المتعددة، ومعرفة فنون الكتابة والتعبير، وكيفية تشكيل الصور الفنية في الكتابة، ومعرفة أساليب التشويق وطرق الانتقال من فكرة إلى فكرة، وأين يكون الإطناب وأين يكون الإيجاز، وتتعلم الكناية والمجاز، وتتعلم قواعد اللغة، وما هو واجب التقديم وما هو واجب الحذف، وما هي أساليب الإنشاء وكل ما يتعلق باللغة ومتانتها، ثم عليك أن تقرأ وتقرأ، فكلما كتبت أكثر احتجت لتقرأ أكثر وأكثر، فمعينك لا بد وأن ينضب، ولا بد للمداد من رافد، وخير الروافد هي القراءة، ومن ثم عليك أن تتدرب جيدا، وأن تحاول أن تخرج أكثر من نص لتعرضه على الخبراء والنقاد، ليقرؤوه كلمة كلمة، ويفهموه فكرة فكرة، ويتذوقوه صورة صورة، ويعيشوا في عقل الكاتب من خلال سطوره، لا أن تنثر كلامك سجعا، وكأنما الكتابة هي الجرس الموسيقي للكلمات، حتى وإن اختفت منها المعاني والإشارات، فليست الكتابة للطرب، وإنما الكتابة هي مجموعة متكاملة من فلسفة للكاتب وتصوره عما يكتب وأدبه وفنه ورؤيته وطريقة تعبيره وكلماته.

معلومات الموضوع

الوسوم

  • الأدب
  • اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

    شاهد أيضاً

    مسؤولية التعلم ولو في غياب “شخص” معلم

    ربما من أوائل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العلاقة بين المعلم والمتعلم، قصيدة …