أَبشِرُوا فَإنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (2/2)

الرئيسية » بصائر الفكر » أَبشِرُوا فَإنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (2/2)
301773_242009942581478_804685759_n

(6) الخائنُ خائفٌ دائمًا ومُفْرِطٌ في التَّوقِّي والتحسُّب والحذر

إنَّ خوفَ الخوَّانِ حقيقةٌ نفسيَّةٌ معروفةٌ، دلَّتْ عليها كلُّ وقائعِ التاريخِ، وإفراطُ الخائنِ الظالمِ في الحذَرِ والتوَقِّي أولُ مواردِ الخوفِ، وذلك أنَّ خياناتِه تُخَيِّلُ له أنَّ الجميعَ سيفعلون معه مثلَ ما فعله مع مَنْ خانهم، وخيانتُه دائمًا بين عينيْه تطاردُه وتُنَغِّصُ عليه معيشتَه، وإنْ أبْدَى اطمئنانًا ظاهريًّا زائفا.

إِذَا سَاءَ فِعْلُ المرْءِ ساءَتْ ظُنُونُهُ      وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ

قال الحسنُ بنُ عليٍّ: «الأمينُ آمِنٌ، والبرِيءُ جرِيءٌ، والخائِنُ خائِفٌ، والمسيءُ مُستوحِش».

ومن حِكَم الأحنفِ بن قيْسٍ: «إذَا لمْ تَكُنْ خَائِنًا فَبِتْ آمِنًا».

وقيل: «منْ عَامَلَ النَّاسَ بالمكْرِ كَافَأُوهُ بِالْغَدْر».

وقيل: «أَخْفَضُ النَّاسِ مَنْ لَا يَثِقُ بأَحَدٍ، ولَا يَثِقُ بهِ أَحَدٌ»، فهو لا يرَى في الناسِ جميعًا إلا أنهم خَوَنةٌ مثلُه، وشعاره الذي ينطوي عليه ضميره:

وَخَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ       فَلَا أَدْرِي بِمَنْ أَثِقُ

ولذلكَ قيلَ: «أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُحْذَرَ مِنْه: العَدُوُّ الفَاجِرُ، والصَّدِيقُ الغَادِرُ، والسُّلطَانُ الجائِرُ».

والخائنُ الغادرُ يعلمُ أنَّ المتقرِّبين منه المكرمين له إنما يرْجُون قضاءَ حاجتِهم منه، أو يتَّقُون شرَّه، وذلك من أسباب حلول البلاءِ على الأمة، كما في حديث التِّرْمِذِيِّ : «إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً فَقَدْ حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ».

قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ، وَعَقَّ أُمَّهُ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَبَاهُ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ، وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ، وَشُهِدَ بِالزُّورِ، وَلُبِسَ الْحَرِيرُ، وَاُتُّخِذَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ، وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا».

ولا يُصَدِّقُ الخائن أنَّ في المتزلِّفين إليه مَنْ يُخْلِصُ الوُدَّ له! ويعلمُ أنه متى ارتفعتْ يدُه عنِ القدرةِ عليهم تخلَّصُوا منه، فــ«مَنْ وَدَّكَ لِأَمْرٍ أَبْغَضَكَ عِنْدَ انْقِضَائِه».

ويبلغُ الخوفُ مداه إذا امتدَّتْ يدُ الغادرِ الخائنِ بالقتلِ؛ لأنه يخشَى عندئذٍ القصاصَ من وليِّ الدمِ، فكيفَ إذا كان هذا لآلافٍ من مختلفِ فئاتِ الأمةِ، وليس لأفرادٍ منهم.

 إِذَا وَتَرْتَ امْرَأً فَاحْذَرْ عَدَاوَتَه            مَنْ يَزْرَع الشَّوكَ لا يَحْصُدْ بِه عِنَبا

وهذه الحالةُ من الشكِّ القاتلِ وفَقْدِ الثقةِ في الجميعِ هي جزاءٌ من جنسِ عملِه (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، والعربُ تقولُ للجاني على نفسِه الذي يُجازَى بما كسبتْ يدُه: «يَدَاكَ أَوْكَتَا وَفُوِكَ نَفَخ».

ولهذا ترَى الخائنَ السفَّاحَ الذي غدَرَ برئيسِه وخان أمانتَه يخشَى أن يظهرَ لعُموم الناسِ، فلا يخاطبُ حتى جمهورَه إلا من خلفِ الشاشاتِ، ولا يتحرَّكُ إلا في حراسةِ الدباباتِ والمصفَّحاتِ، بل إنه يفرضُ يومَ تنصيبِه أجازةً، حتى يضمنَ خُلُوَّ الشوارعِ والساحاتِ من الشعبِ، مع أنه يملؤها بالجنودِ والمجنزراتِ، فأيُّ إحساسٍ بالخوفِ يسكنُ نفسَ الخائن!.

(7) مَنْ عَمِلَ تحتَ إدارةِ الخَوَنةِ فالغالبُ أنْ يَخُون

مضت السننُ الطبيعيةُ ألَّا يُباعَ في كلِّ سوقٍ إلا ما يرُوجُ فيها، فلا يرُوجُ بيعُ الذهبِ في ورش السمكرة، كما لا  يمكنُ ممارسة السمكرة في سوقِ بيعِ الذهبِ، ولهذا لا يُتَصَوَّرُ أنْ يعملَ الثقاتُ والأمناءُ مع الخوَنةِ إلا أنْ يقعوا في بئرِ الخيانةِ، وكَفَى بالمرْءِ خِيانةً أنْ يكونَ أمِينًا للخَونةِ، وقد قال علي رضي الله عنه: «والفَجَرَةُ بعضُهم لبعضٍ غَشَشَة مُتَخاِونون، وإن اقتربت منازلهم وأبدانهم».

وقد قيل: «لا تَرْجُ خيرَ مَنْ لا يرجُو خيرَك، ولا تأْمَنْ جانبَ مَنْ لا يأْمَنُ جانِبَك»، وهكذا تمضي دورةُ الخيانةِ التي لا تنتهي، وبخاصةٍ إذَا بدأت الدورةُ ممن تقدَّمَ لولايةِ أمرِ الناسِ بالخيانةِ، وإذا انطوتْ نفسُ المتسلِّطِ على الأمةِ على الشكِّ في عمومِ الأمةِ، فقد أخرج أبو داود عن جماعة من الصحابة، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ».

فإذَا عامل الناسَ بالشكِّ وتوقُّعِ الخيانةِ بادَلَهُ الناسُ ذلك، بل صارت الخيانةُ خصلةً سائدةً في المجتمعِ، فلا يبقى فيه مَنْ يُوثَقُ به، وتنفتحُ أبوابُ الشر على مصاريعِها، لأن «مَنْ خافَ شَرَّكَ أَفْسَدَ أَمْرَك».

"لخطورةِ الخيانةِ بارتكازِها على الغدْرِ والمكْرِ الخفِيِّ فقد تكفَّلَ اللهُ تعالى رحمةً منه ولُطفًا بدفْعِ شرِّ الخائنين عن المؤمنين الذين يتعامَلون بالأمانةِ والاستقامةِ وسلامةِ القلبِ"

فانظر هل تجدُ حولَ الخائنِ الانقلابيِّ مخلصًا يحبُّ وطنَه أو دينَه، أو يُعْرَفُ بصدقٍ في حديثِه أو عِفَّةٍ في نفسِه أو نزاهةٍ في شخصِه وأخلاقِه؟ أم تجدُ حوله الفسَدَةَ وسارقي أقواتِ الأمة، والمتهرِّبين من الضرائبِ، والبلطجيةَ المجرمين، وسائرَ أنواعِ الفسَدَة، الذين لا يجمعُهم ولاءٌ لوطنٍ، ولا اتفاقٌ على مشروعِ خيرٍ، ولا برنامجٌ للنجاح، وإنما يجمعُهم بُغضٌ للحقٍّ وكراهيةٌ لأهل الخير، وتجمعُهم مصالحُ ومطامعُ إن اتفقتْ حينًا فلن تلبثَ أن تختلف وتتصارعَ على حسابِ الوطنِ المبتَلى بتمكينهم.

وهؤلاء لا يمكنُ إلا أن تغرقَ السفينةُ التي يقودونها أو تحملُهم، وأنْ تفشلَ في كلِّ أمورها، فإنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ المفْسِدِين، ولَا يَهْدِي كَيْدَ الخَائِنِين.

(8) اللهُ يبغض الخائنَ ويدافعُ عمَّنْ تمَّتْ خيانتُهم

نظرًا لخطورةِ الخيانةِ بارتكازِها على الغدْرِ والمكْرِ الخفِيِّ فقد تكفَّلَ اللهُ تعالى رحمةً منه ولُطفًا بدفْعِ شرِّ الخائنين عن المؤمنين الذين يتعامَلون بالأمانةِ والاستقامةِ وسلامةِ القلبِ والضميرِ (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور)، وفي هذه الآيةِ إشارةٌ لطيفةٌ وبشارةٌ عظيمةٌ للمؤمنين الذين يتعرَّضون للخيانةِ، بأنه عزَّ وجلَّ متكفِّلٌ بالدفاعِ عنهم (وَإن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، ولم لا وهو سبحانه القائل (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).

فهل تتصورُ أن يكونوا محلَّ بُغْضِ الحقِّ سبحانه ثم ينجحَ لهم كيدٌ، أو يصلح لهم عملٌ، أو ترتفعَ لهم رايةٌ، أو تتمَّ لهم غاية؟!

كيف وقد كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتعوَّذُ من الخيانةِ بكل صورها، ففي حديث أبي داود: «... وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَة»، ويدعو إلى تجنُّبِها حتى مع الخائنين، فقال فيما روى أبو داود: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».

كيف وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفي الإيمانَ عمَّن خانَ الأمانةَ، وينفي الدينَ عمَّن خان العهدَ، فقال فيما رواه أحمد وابن حبان: «لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ».

(9) الخيانة سبب لتخلي الله عن الخائن

كلُّ ذلك بلا شكٍّ مدعاةٌ لتَخَلِّي اللهِ تعالى عن الخائنِ، ورفعِ التوفيقِ عن كل قراراتِه، والحيلولة بينه وبين الرشادِ والسدادِ في ترتيبه، فتلك سنةُ الله سبحانه وتعالى في الخيانات بين الأفرادِ العاديين، ففي الحديث القدسي عند أبي داود والحاكم: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا» والخروجُ من بينهما: يعني حجبَ معونةِ الله تعالى عنهما مشتركين، واختصاصَها بالصادقِ المظلوم منهما وحده.

فإذا كان الأمرُ كذلك في خيانةِ الأفرادِ بعضِهم لبعضٍ، فكيف بخيانةِ ذوِي الشِّقاقِ والنفاقِ، الذين يشُقُّون العَصا، ويقطعون طريقَ الوِفاق؛ وينصُبُون حبائلَ الغدرِ والمكْرِ الخفِيِّ والبغيِ والفساد؟ أترى يجعلُهم اللهُ عزَّ وجلَّ من الآمنين والموفقين؟! كيفَ وقد أفسدوا وخانوا؟ وهو سبحانَه القائلُ (إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) وأيُّ فسادٍ أعظمُ من الخيانة العظمى للأمة؟

وأيُّ جُرْمٍ أكبرُ من أن تكونَ هذه الخيانةُ مغمورةً بالدماءِ المعصومةِ التي يستحِلُّها الخوَّان الأثيم؟.

وقد تبرَّأ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن هذه صفتُه وهذا عملُه، فقد أخرج مسلم منْ حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «... وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ؛ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ».

(10) أيها الثوارُ الأحرارُ امضُوا في ثورتِكم واثقين بالنصرِ بإذنِ الله

إذا كان السقوطُ وعدمُ التوفيقِ هو ما يترصَّد الخائنَ في طريقِه؛ فإنَّ الثوارَ ينبغي ألَّا ينتظِروا حتى يسقطَ الخائنُ متعثرًا في أخطائِه ويختنقَ بحبلِ خيانته، بل عليهم أن يكتسبوا أسبابَ التوفيقِ والنصرِ الإلهيِّ: بالإخلاصِ لله، والصبرِ الجميل من غير سخطٍ ولا جزعِ، والإقبالِ على الله بالتوبةِ والاستغفارِ والذكرِ والدعاء، والاستمرارِ في ثورتِهم السلمية ِالمبهرةِ المبدِعةِ، والعملِ المتواصلِ على زيادةِ الحاضنةِ الشعبيةِ وتحريكِ عمومِ الأمةِ للمشاركةِ في الثورةِ، والتوسُّعِ في الانتشارِ الزمانيِّ والمكانيِّ والنوعيِّ للفعالياتِ الثوريةِ وللشرائحِ والفئاتِ المشاركةِ فيها.

ومن أهم واجباتهم: الاتحادُ والتعاونُ بين كل مكوناتِ الحراكِ الثوريِّ والعملِ الوطنيِّ خصوصًا على الأهدافِ المشتركةِ، جنبًا إلى جنبٍ مع تجهيزِ المشروعِ السياسيِّ الناضجِ والجامعِ والمتسقِ مع آمالِ وطموحاتِ الثورة المباركة.

اللهمَّ لا تهدِ للانقلابيين الخائنين كيدًا، ولا تُصْلِحْ لهم عملًا، ولا تُحقِّقْ لهم رجاءً ولا أملًا، ولا تجمعْ لهم كلمةً ولا شمْلًا، ولا تَزِدْهُم إلا خِزْيًا وسقوطًا وفشلًا، واحفظْ من شرِّهم البلادَ والعبادَ، إنك لطيفٌ لما تشاءُ، إنك أنت العليمُ الحكيمُ.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …