للنّوم في حياة الإنسان أهمية كبيرة كونه محطّة مهمّة لاستعادة طاقته واسترجاع بعض قوّته لإكمال مسيرته في عبادة خالقه وعمارة الأرض، فلا يمكنه أن يواصل نهاره بليله، فالنوم ضرورة من ضرورات الحياة ومن يشذّ عن هذه الضرورة يبتعد عن سنن الأنبياء والرسل عليهم السلام، إذ من السنن الكونية التي جاءت بها الشريعة الإسلامية ونطق بها القرآن الكريم: {وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً} و{ومن آياته منامكم بالليل}. {الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً}. [سورة غافر: 61].
ويدعونا المولى تبارك وتعالى إلى إمعان العقل والنظر تفكيراً وتدبراً لهذه السنة، فيقول سبحانه: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون}. [سورة القصص: 71 ـ 72]، فلا بدّ للإنسان من وقت ينام فيه خلال تعاقب الليل والنهار تسكن فيه نفسه وجسده وترتاح أعضاؤه ويستعيد فيه طاقته ونشاطه، وإذا خالف الإنسان هذه الفطرة التي فطر النّاس عليها أتعب نفسه واختلت موازين القوى لديه، ومن ثمَّ تقاعس عن أداء الواجبات المنوطة به والمهام الملقاة على عاتقه واضطربت أولوياته، ذلك أنَّ الوقت إذا مضى لن يعود، وعمل النهار إذا انقضى وقته لا يغني عنه عمل الليل، فلكل عمل زمان يختصّ به، ومن هنا تكمن خصوصية النوم في حياة المسلم وضرورة إدارة وقته وحسن استغلاله كنعمة مهداة من رب العالمين وجبت المحافظة عليها باعتدال ووسطية دون إفراط ولا تفريط، كي يحقّق مقصود الشرع الحنيف في بثّ هذه الفطرة الإنسانية في نفوسنا، وتحقيقها كما أرادها سبحانه وتعالى حفظاً لديننا وأنفسنا وعقولنا ونسلنا كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي: (مقصود الشارع من الخلق خمسة، وهي أن يحفظ لهم دينهم وعقولهم وأنفسهم ونسلهم وأموالهم، وكلّ ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوّتها فهو مفسدة، ودفعها –أي المفسدة – مصلحة).
ولعلَّ الالتزام بأوامر الشرع الحنيف وتنفيذ تعاليمه في جعل الليل وقتاً للراحة والسكون يحقّق مقصداً عظيماً من مقاصد الشريعة الإسلامية في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل.
"الأصل في النوم أنّه مباحٌ، لكنَّ الفقهاء نصّوا على أنَّ هناك عوارضَ تخرجه عن الإباحة، وذكر أهل العلم أنه تعتريه أحكام الشرع الخمسة، وهي الإباحة والوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة، لأسباب خارجية تتصل به"
يقول الدكتور زغلول النجار في مقاله (الليل والنهار في القرآن الكريم) نشر في العدد الخامس من مجلة حراء: "وربما كان من مبرّرات التوجيه الرباني بالنوم بالليل والنشاط بالنهار أن طبقات الحماية التي أوجدها ربنا تبارك وتعالى في الغلاف الغازي للأرض، ومن أهمها "النطق المتأينة" وما بها من "أحزمة الإشعاع" تتمدد بالنهار فتزداد قدراتها على حماية الحياة الأرضية مما يسمح للإنسان بالحركة والنشاط دون مخاطر. وهذه النطق تنكمش انكماشا ملحوظا بالليل، مما يقلل من قدراتها على الحماية؛ فينصح الإنسان بالركون إلى النوم والراحة حماية له من تلك المخاطر. وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}. (النبأ:10-11). قال تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}. (يونس:67)".
والأصل في النوم أنّه مباحٌ، وهو من الأمور الفطرية الضرورية للأحياء كالأكل والشرب -كما أسلفنا- وهو آية من آيات الله تعالى ونعمه التي امتن بها علينا. لكنَّ الفقهاء نصّوا على أنَّ هناك عوارضَ تخرجه عن الإباحة، وذكر أهل العلم أنه تعتريه أحكام الشرع الخمسة، وهي الإباحة (الأصل فيه) والوجوب والاستحباب والحرمة والكراهة، لأسباب خارجية تتصل به.
ومن ثمَّ، فإنَّ أوقات النوم التي جاءت بها تعاليم شرعنا الحنيف تنحصر في وقتين؛ الأوّل نوم الليل كما بيّنته الآيات السابقة، وهو الأصل في النوم. أمّا الوقت الثاني فهو نوم القيلولة التي جاء ذكرها في موضعين من كتاب الله سبحانه؛ الأوّل قول الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}. [الفرقان:24] أَحْسَنُ مَقِيلًا: أي موضع قائلة، قال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر، وإن لم يكن مع ذلك نوم، والدليل على ذلك أنَّ الجنة لا نوم فيها، وقال ابن عباس وابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. والثاني: قول الله عزَّ وجلَّ: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ}. [الأعراف:4] قال المفسّرون: وهي ساعة غرة واسترخاء وأمن.
وهو ما أكّدته السنة القولية والفعلية على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، ففي الحديث الحسن الذي أخرجه الطبراني في الأوسط: ((قيلوا فإنَّ الشياطين لا تقيل)). وفي سنن ابن ماجه عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((ما كنا نقيل ولا نتغدّى إلاّ بعد الجمعة)).
وبيْن نوم اللّيل ونوم القيلولة، كان الصَّحابة والسَّلف الصالح يحرصون على عدم النوم بعد الفجر، فقد رأى ابن عبَّاس رضي الله عنه ابناً له نائماً نوم الصبح فقال له: (قم، أتنام في الساعة التي تقسّم فيها الأرزاق). وهو ما أكَّده الإمام ابن قيم الجوزية بقوله: (ونومةُ الصبح تمنع الرّزق لأنه وقت تقسّم فيه الأرزاق)، وأرشد إليه الإمام الشهيد حسن البنا في وصاياه العشر: (نَمْ باكراً واستيقظ باكراً ولا تنم بعد الفجر).