الخسائر البشرية والمادية.. وموازين النصر والهزيمة

الرئيسية » بصائر الفكر » الخسائر البشرية والمادية.. وموازين النصر والهزيمة
غزة والتدمير

بعد مرور حوالي شهر من الحرب الضروس التي خاضها أبطال غزة ضد الاحتلال الصهيوني في ظل تواطؤ عربي ظاهر للعيان، قدمت غزة ما يقارب الألفين من الشهداء، وعشرة آلاف من الجرحى، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية الفادحة من تدمير للبيوت والمنشآت وغيرها، كضريبة للصمود وانتزاع الحقوق من الكيان الصهيوني وكل من يؤيده.

عائلات أبيدت بأكملها، ومئات الآلاف من الناس باتوا دون مأوى، وأفراد فقدوا كل أسرهم، هي حصيلة العربدة الصهيونية على العزّل من أهل غزة، في ظل عجز قوات الاحتلال عن الوصول للمقاومين الذين كبدوهم خسائر كبيرة، أجبرتهم على استجداء الهدنة، وطلب إيقاف الحرب، وكتم الخسائر التي لم يشهدوا مثلها منذ قيام كيانهم الغاصب على هذه الأرض الطاهرة.

 

بين ميزانين..
لا تخضع معركة أبطال غزة ضد العدو الصهيوني لموازين الأعداد وأرقام الخسائر من كلا الطرفين، فالمعركة هنا مختلفة، إنها معركة استقلال وحرية، وانتزاع للحقوق والعزة، ورفض للظلم والحصار، وهي تنتدرج تحت حروب الاستقلال التي يحارب فيها الشعب عدوه ومغتصب أرضه، ليطهر أرضه من دنسهم ورجسهم.

"إن حروب الاستقلال لا تخضع إلا لميزان الإرادة والثبات والصمود والتحدي، ولا تخضع لموازين الأعداد وأرقام الخسائر من كلا الطرفين"

إن حروب الاستقلال لا تخضع إلا لميزان الإرادة والثبات، والصمود والتحدي، ورفض الذل والخنوع والقبول بالمحتل مهما كانت قوته ومكانته الدولية، وهذا ما ميّز معركة غزة الأخيرة، حيث الثبات على المطالب، ورفض أنصاف الحلول أو القبول بالذل للمحتل ومن يعاونه.

إن السنن البشرية تتفق على حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن الشعوب المحتلة لابد أن تقدم الكثير من الخسائر حتى تنال حريتها ممن حرمها منها، لا يختلف هذا الأمر بين ديانة وأخرى، أو مكان وآخر. فالتاريخ شهد الكثير من الدول التي قدمت أبنائها في سبيل نيل الحرية، ففيتنام قدمت مليون ومئتي ألف قتيل، والجزائر قدمت ما يقارب المليون شهيد ضد الاحتلال الفرنسي، وقس على ذلك شعوب الدول المختلفة.

ومعركة غزة لا تخرج عما سبق، بل هي خاضعة لهذه السنن والقوانين، إلا أنها اتخذت طابعاً دينياً متميزاً، خصوصاً حينما انكشفت القومية الزائفة، والعلمانية المتآمرة، وجوقة المتصهينين العرب، الذين ما فتئوا وهم يحاولون ثني أهل غزة عن دعمهم لصمود مجاهديهم وثباتهم، إلا أن كل محاولاتهم لم تنل شيئاً. وبقي أهل غزة صامدين يحتسبون ما أصابهم عند الله سبحانه، ويدعونه أن يتقبل شهداءهم في أعلى عليين في جنته.

إن الثبات الأسطوري الذي أظهره أهل غزة، أقوى من طائرات ودبابات وصواريخ الاحتلال، وإن ما قدمه أبطالهم من تضحيات يفخر بها كل مسلم، تكشف عن حقيقة جند الله الذين توكلوا عليه حق توكله، وطلبوا النصر منه فأيدهم بتأييده، وأمدهم بمدد من عنده.

يقول الله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [البقرة:214]

فالآية الكريمة تتحدث عن صورة مؤلمة شبيهة بما نشاهدها، فالبأساء هو ما يصيب المال كهدم البنيان وخسارة التجارة، أما الضراء فهو ما يصيب الأبدان من قتل وجرح وتشريد، ثم تشبه الآية ما أصاب المؤمنين من الهول والفزع وكأنما أصابهم زلزالاً لشدة ما أصابهم.

وفي تفسير هذه الآية يقول الرازي رحمه الله: (أم حسبتم أيها المؤمنون أن تدخلوا الجنة بمجرد الإيمان بي وتصديق رسولي، دون أن تعبدوا الله بكل ما تعبدكم به، وابتلاكم بالصبر عليه، وأن ينالكم من أذى الكفار، ومن احتمال الفقر والفاقة، ومكايدة الضر والبؤس في المعيشة، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدو، كما كان كذلك من قبلكم من المؤمنين).

ويقول الشهيد سيد قطب رحمه الله في الظلال عن النصر في ضوء الآية: (إنه مدخر لمن يستحقونه. ولن يستحقه إلا الذين يثبتون حتى النهاية. الذين يثبتون على البأساء والضراء. الذين يصمدون للزلزلة. الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعند ما يشاء الله. وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى «نَصْرُ اللَّهِ»، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند الله. ولا نصر إلا من عند الله).

مما سبق، فإن ما قدمه أهل غزة من شهداء وخسائر لن يضيع عند الله عز وجل، بل سيكون بالإضافة لما قدمه من قبلهم زاداً لتحقيق نصر الله، ووعده بتطهير فلسطين من اليهود ودنسهم، لكنها ضريبة الحرية، وخلع المحتل وطره مذموماً مدحوراً

 

"العدو الصهيوني لم يحقق من أهدافه أي شيء، سوى تدميره للمنازل وإزهاقه للأرواح، في حين عجز عن حماية أمنه وكيانه والحفاظ على هيبته المزيفة. بينما يتقدم أبطال غزة من خطوة إلى أخرى، ويظهرون التقدم في شتى الميادين، ناهيك عن حالة التأييد الشعبي الواسع"

وكما قال أحمد شوقي:
وللحرية الحمراء بابٌ .. بكل يد مضرجة يدق

إن الميزان الحقيقي الذي يحدد الانتصار من الهزيمة، هو ميزان الإرادة وتحقيق الغايات، فالعدو الصهيوني لم يحقق من أهدافه أي شيء، سوى تدميره للمنازل وإزهاقه للأرواح، في حين عجز عن حماية أمنه وكيانه، وعجز عن الحفاظ على هيبته المزيفة التي صنعتها هزائم الجيوش العربية المهترئة، في حين يتقدم أبطال غزة من خطوة إلى خطوة، ويظهرون التفوق في شتى الميادين الحربية، إلا أن أكثر ما كشفت عنه هذه الحرب، هو مدى حالة التأييد التي حظيت بها المقاومة بين الناس، والتي تبين عمق الحاضنة الشعبية لهذه المقاومة، وتبنيها لهذا الخيار، الأمر الذي يعني مزيداً من التقدم الواثق نحو النصر والحرية.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
كاتب فلسطيني، متخصص في الشريعة الإسلامية والسياسة، مهتم بالإعلام والتربية والتعليم.

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …