لا شك أن الحرب على غزة قد كشفت عن قدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة وتحدي دولة الاحتلال الصهيوني، والتصدي لعدوانه رغم ما يمتلك من ترسانة عسكرية كبيرة، وفي الوقت نفسه فإن الحرب على غزة قد أطلقت الرصاصة الأخيرة على جدوى المسار التفاوضي، الذي لم يجلب للقضية إلا الوهن والضعف، وضياع الأرض والتنازل عن الثوابت.
ويحسب لحرب غزة أنها أظهرت للقاصي والداني مدى براعة العقلية الفلسطينية المقاومة، وخصوصاً ما فاجأت به كتائب القسام العالم أجمع، من عمليات ومعدات وأسلحة أنتجتها بنفسها، أثرت على مجريات المعركة وأوقعت في الاحتلال من القتلى والخسائر ما لم يشهده منذ قيام كيانه الغاصب على هذه الأرض المباركة.
في المقابل، فإن التفاعل الشعبي العربي مع ما جرى في غزة، كان ضعيفاً ومحدوداً، وربما يعود لطبيعة الظروف الحالية التي تتسم بمحاربة منجزات الربيع العربي، والردة على ثورته وحريته، بطريقة تواطأ فيها الرسميون العرب مع الكيان الصهيوني، وتقاطعت مصالحهم في محاربة الفلسطينيين في غزة وإنهاء المقاومة فيها.
عتاب على قدر المحبة
ربما نالت الضفة الغربية الكثير من العتاب واللوم على ضعف مناصرتها لحرب غزة، وهي التي قدمت على مدى عقود آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، حيث كان كثير من المتابعين يأملون أن تنتفض الضفة الغربية بما يخفف العبء عن إخوانهم في غزة، وينقل المعركة إلى جميع مدن الضفة وقراها ومخيماتها.
أملٌ كان يتمناه الكثير خصوصاً وأن الضفة الغربية قد قدمت أروع صور التضحية والفداء في انتفاضة الأقصى، وضربت الكيان الصهيوني ضربات موجعة أوقعت فيه خسائر كبيرة، وفي الوقت نفسه، فإنها البيئة الأكثر مناسبة لتوجيه ضربات مؤلمة للاحتلال، حيث أنها على تماس مع المستوطنات وقوات الاحتلال، بل في كثير من المناطق يسلك الفلسطينيون والمستوطنون نفس الشارع، مما يجعل الأمر سهلاً بنظر الكثير من الناس.
لكن مع ذلك، فإن الأمر ليس بهذه السهولة، إذ تعرضت الضفة الغربية للعديد من صور المعاناة كان أشدها بعد الانتخابات التشريعية عام 2006، والحسم العسكري في غزة عام 2007، وهو الذي فتح على الضفة جبهة مفتوحة من الحرب التي قادها كل من اليهود، وسلطة فتح في رام الله، وفي الوقت نفسه أثر على تفاعلها مع الأحداث الجارية في غزة، وتتمثل هذه المعاناة والتي ما زالت آثارها باقية حتى أيامنا هذه بالأمور التالية:
“الضربات التي تلقتها حماس في الضفة الغربية، أوجدت جيلين مختلفين، أحدهما عاش مرحلة التنظيم المحكم، وقدم التضحيات والإنجازات، والثاني يعيش مرحلة اندفاعية للنهوض بالضفة، وفي المقابل يعاني من الاعتقال والتضييق"
1- الضربات المؤلمة الموجهة للبنية التنظيمية والعسكرية لحركة حماس في الداخل، حيث كانت الضربات تستهدف النسيج والجسم الداخلي للحركة داخل الضفة، فكانت حملات الاعتقالات الشرسة، والتعذيب الشديد داخل سجون سلطة فتح في رام الله، الأمر الذي استشهد على إثره العديد من الشهداء.
بالإضافة إلى اعتقال القيادات وعزلها عن محيطها الاجتماعي، وتهديد الناس بأرزاقهم، بل فصل العديد منهم تحت مسمى دعم حماس وتأييدها، من خلال جهاز يعرف باسم "أمن المؤسسات" والذي كان يعنى بـفصل كل من يؤيد حماس من المؤسسات المختلفة، بناء على تقارير جهازي المخابرات والأمن الوقائي.
2- ضعف التواصل التنظيمي بين الأفراد داخل الضفة، بسبب الضربات المؤلمة، الأمر الذي أوجد جيلاً لم يشهد تلك التربية التي تلقاها سلفهم، فلا محاضن تربوية حقيقية، ولا مناقشة فكرية حقيقية لواقع وسبل النهوض به، إما بسبب المراقبة والتضييق الشديد من سلطة فتح، أو الخوف من البطش الأمني الذي يستهدفهم من قبل هذه السلطة واليهود معاً.
بل إن اليهود يوقعون عقوبات قاسية على كل من يعمل على إحياء البنية التنظيمية الداخلية كما كانت سابقاً، الأمر الذي جعل هناك جيلين مختلفين، أحدهما عاش مرحلة التنظيم المحكم، وقدم التضحيات والإنجازات، والثاني يعيش مرحلة اندفاعية للنهوض بالضفة، وفي المقابل يعاني من الاعتقال والتضييق، رغم ضعف الإنجازات وعدم وجود البنية التربوية الحقيقية.
3- محاربة الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، عبر إغراقهم بالماديات، ومحاربة نهج المقاومة، والتشكيك برجالها وقادتها، وقتل الحرية السياسية داخل الضفة الغربية، بحيث تتسم بلون سياسي واحد، الأمر الذي زرع الخوف في نفوس الناس، فعلى سبيل المثال كانت خطب الجمعة موحدة بحسب هوى وزير أوقاف سلطة فتح، والصحف والإذاعات كلها تتماشى مع منهج هذه السلطة القائم على السلام مع دولة الاحتلال، ومحاربة صور المقاومة المختلفة، واعتبار العمل العسكري ضد الاحتلال جريمة تستحق العقوبة والمحاربة.
وهو ما انعكس على طبيعة أهل الضفة بشكل سلبي، فمن جاء إلى الضفة قبل هذا العام فوجئ بحجم الفساد المنتشر، وحالة الهدوء والتعايش الموجودة، وفي الوقت نفسه تسابق بعض الناس لنيل التصاريح لدخول أراضي الـ 48 ليس لزيارة القدس المحتلة، وإنما للاستمتاع على الشواطئ وغيرها حسب بعض الشباب الفلسطينيين.
4- قتل روح التضحية والمقاومة، عبر إشغال الناس بأرزاقهم لتحصيل لقمة عيشهم، ناهيك عن تسهيل سبل الاقتراض والتقسيط المريح، مما شجع الناس على الوقوع في التزامات مالية طويلة الأمد، وفتح الباب للترفيه والرخاء، حتى بات هذا المظهر متعلقاً بجميع أطياف الشعب الفلسطيني على خلاف توجهاته، الأمر الذي يشغل المواطن الفلسطيني بعمله لتسديد ديونه وقروضه، ويزيد لديه الحرص على عدم تضييع ما كسبه من أمور ترفيهية مختلفة.
وفي الوقت نفسه فإن ما ساعد على قتل هذه الروح هو رؤية الناس لبعض القادة وهم يقومون بما يقومون به من انغماس بالتجارة، أو سيارات فارهة، أو بنايات ضخمة، أثر بشكل عام على نفسية المواطن الفلسطيني وروحه المعنوية.
5- إحباط المقاوم الفلسطيني في الضفة الغربية، عبر محاربته بعمله وفصله منه، دون وجود من يعوضه أو يدعم صموده على نهجه. الأمر الذي يؤدي به إلى السكوت والرضوخ للواقع والتنازل عن قيمه ومبادئه في سبيل لقمة العيش، أو العيش بحالة من الضيق والضنك بسبب عمله في أعمال شاقة ذات مردود قليل، أو اضطراره للسفر للخارج لكسب رزقه حيث بات السفر ظاهرة جلية عند الكثير من الشباب الفلسطينيين داخل الضفة الغربية، وهو ما يريده الاحتلال ومن يعاونه.
أما كيف أثرت حرب غزة بشكل إيجابي على واقع الضفة، وما هي الأمور التي تحتاجها الضفة للعودة إلى وضعها الريادي، فإننا سنتكلم عنه في المقالات اللاحقة إن شاء الله.