بركت ناقة النبي- صلى الله عليه وسلم- على الأرض من ثقل ما أنزل على كاهله، وكان يحمر وجهه، ويتصبب العرق من جبينه الشريف عند نزوله عليه، إنه القرآن العظيم، إنه كلام رب العالمين، إنه النور المبين، قال تعالى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلا(5)} [سورة المزمل].
يعتني كثيرٌ من المسلمين بالقرآن الكريم؛ فيزينون أصواتهم بآياته، ويرتلون كلماته، ويجودون حروفه، ولكنّ قليلاً منهم تنبهوا إلى غايته الكبرى، فتلاوة القرآن وتدارسه مع تدبره له تأثير عظيم على القلب، وزيادة الإيمان، وتغيير السلوك، يقول الإمام الخطابي: "إنّ سر إعجاز القرآن الأعظم هو: صنيعه بالقلوب، وتأثيره بالنفوس"، فما هي معيقات تدبر القرآن؟ وما السبيل الموصل لتدبر آياته، وزيادة تأثر القلب به؟
معيقات التدبر:
1- الصورة المتوارثة عن القرآن الكريم، فلا نسمعه إلا في المآتم والأحزان، أو في الحفلات والمناسبات، أو عند زيارة القبور، أو طلب الشفاء والدواء.
2- إلف القرآن الكريم، والتعود على نمطية معينة في سماعه، فنطرب له؛ لصوت قارئ ندي، أو تالٍ شجي، من غير تركيزٍ على المعاني، والأثر المتحصل من التلاوة على القلب.
3- نسيان الهدف الذي نزل من أجله القرآن الكريم، فليس الهدف الأسمى حفظه، أو تلاوته تلاوة سريعة غير مركزة، أو عد الختمة وراء الختمة، إنما هدفه أن يتأثر القلب بآياته ومعانيه، ولا يتحصل ذلك إلا بالتلاوة الواعية المتأنية المبصرة.
"الهدف الذي نزل من أجله القرآن الكريم أن يتأثر القلب بآياته ومعانيه، ولا يتحصل ذلك إلا بالتلاوة الواعية المتأنية المبصرة"
4- الفهم الخاطئ عند البعض لكيفية التدبر، فهو يحتاج لكتاب تفسير بينه وبين القرآن، حتى يستصعب التدبر ويتركه.
5- غياب القدوات الواعية: التي تعلم الناس المنهج الصحيح في تلاوة كتاب الله تعالى.
كيف يتصل القلب بالقرآن الكريم:
أولاً: القراءة المتأنية المسترسلة، مع الفهم للمعنى العام للآيات، وهي سنة النبي – صلى الله عليه وسلم- حيث وصفت قراءته أم المؤمنين حفصة بقولها: (كان يقرأ بالسورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها)]رواه مسلم[فلا يكن هم القارئ قطع الأجزاء وعدّ الختمات، من غير وعي لمعانيه وغايته ومراميه.
ثانياً: التغني بالقرآن وتلاوته بهدوء وحزنٍ وتباكٍ، فعن سعد بن أبي وقاص قال:َ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- يَقُولُ: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا، وَتَغَنَّوْا بِهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ فَلَيْسَ مِنَّا)] رواه ابن ماجه[، فهو أدعى لتأثر القلب بالآيات وخاصة السور التي يذكر فيها الموت، أو مشاهد الآخرة، أومشاهد الجنة والنار.
ثالثاً: التفاعل مع الآيات، وكأنها أنزلت علينا الآن، مع تأول القرآن الكريم، فإذا مر بآية فيها تسبيح سبح، أو آيةٍ فيها ذكرُ نارٍ استعاذ منها، أو جنة سألها الله، فهذا أدعى لحضور القلب وتفاعله مع الآيات.
رابعاً: ومن المعينات على التدبر والتأثر بالقرآن الكريم، أن يكون للمسلم ورد في التفسير وفهم أسباب النزول، مع العناية بفهم المفردات والتراكيب القرآنية.
خامساً: الإكثار من التلاوة لكتاب الله تعالى، وإطالة المكث معه، فليكن لنا ورد يومي، مع القراءة من مصحف خاص وصوت مسموع؛ فهو أدعى للتأثر به، واستثارة المشاعر والتجاوب مع الآيات.
سادساً: تكرار الآيات التي ظهر فيها تجاوب قلبي، فورد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- والسلف الصالح من بعده، وقوفه على الآيات وتردادها مراراً وتكراراً، فيحصل التأثر القلبي بها وزيادة الإيمان.
وختاماً... إنّ مفتاح قلوب العباد ذكر الله تعالى، ولن تجد ذكراً أعظم من كتاب الله تعالى، إنّ القرآن للإيمان مثل الماء للزرع، والغيث للأرض، فلو نزل على جبل ما احتمل، ولخشع وتصدع، والقلوب منه ترق، والجلود تقشعر وتلين، والنفوس به تطمئنُّ، وبالقرآن تنحل العقد، وترقى الأرواح، وتشفى الصدور، فلنصل قلوبنا بالقرآن فهو زاد الإيمان الأعظم.