تواجه المقاومة الفلسطينية في الوقت الراهن، الكثير من الأعداء، وكل منهم يستعمل ما يُتاح تحت يدَيْه من أسلحة، سواء أسلحة عسكرية في الميدان، أو سياسية ودبلوماسية في دهاليز الحكومات والأنظمة، أو إعلامية في ساحة الحرب الأهم، وهي قلوب وعقول الجماهير.
ولعل من أهم وأخطر هذه الأسلحة التي يستخدمها أعداء المشروع الإسلامي، هو سلاح "المنطق" الإعلامي، الذي يحاول إقناع الجماهير بعدد من الرسائل السلبية حول المقاومة الإسلامية التي تحارب عن الأمة كلها، الكيان الصهيوني الغاصب على أرض فلسطين.
من بين هذه الرسائل السلبية، وأهمها أو أخطرها، رسالتان، الأولى جدوى العمل المُقاوِم ضد "دولة مدرعة حتى الأسنان"، وتملك "جيشًا واستخبارات هي الأقوى في العالم"، و"تحظى بدعم القطب الأوحد في عالم اليوم".
ويدعم هؤلاء أقوالهم المسمومة هذه، بكلام عن أننا في عصر السلام، وأن الحقوق تُسترد بالسياسة في عالم الأقوياء الذين يدعمون الكيان الصهيوني، إلى آخر كل هذا الكلام.
الرسالة الثانية التي يسعى إليها هؤلاء، هي حجم الخراب والدمار الذي يوقعه العدو الصهيوني يوميًّا بأهلنا في قطاع غزة الصامد، وأن الثمن البشري والدم المدفوع، لا يتفق مع المقابل السياسي.
هذه العبارات تتجاوز العديد من الحقائق التي تصل إلى مستوى القوانين والثوابت التي تحكم حركة السياسة في عصرنا الحالي، والعمران البشري بشكل عام.
"من القوانين والثوابت التي تتحكم بحركة السياسة، أن السلام لا يفرضه الضعفاء، وإنما يفرضه الأقوياء، وتحت وطأة السلاح والدم، الذي يجبر الأعداء على الحفاظ على حالة السلام هذه"
ومن بين هذه القوانين، أن السلام لا يفرضه الضعفاء، وإنما يفرضه الأقوياء، وتحت وطأة السلاح والدم، الذي يجبر الأعداء على الحفاظ على حالة السلام هذه.
وهي حقيقة تاريخية ثابتة، أكدتها كبار الحوادث والصراعات التي اندلعت عبر التاريخ الإنساني، وسجلها المؤرخون؛ فما من حالة سلام نهضت بين طرفَيْن، إلا بعد حروب طويلة، وتحت تأثير قوة الخصوم.
أما عن السلام مع دولة الاحتلال؛ فإن عشرين عامًا تلت عملية أوسلو، ولم يتحقق فيها شيء للفلسطينيين، سوى المزيد من تقزيم القضية وسلب الحقوق؛ أبلغ دليل على كذب هؤلاء.
ويتغاضى هؤلاء الذين يتكلمون عن جدوى المقاومة في زمننا هذا، عن قانون مهم من قوانين العمران البشري في هذا الإطار، وهو أن قانون التدافع، الذي تناوله القرآن الكريم في سورتَيْ "البقرة" و"الحَج".
ففي سُورة "البقرة" يقول رب العزة سبحانه: {فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}.
أما في سُورة "الحَج" فيقول الله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (401)}.
ولا يوجد أوضح من معاني آية سُورة "الحَج" على وجه الخصوص في هذا الذي نحن بصدده.
أولاً، وفي الطبري وفي تفاسير أخرى للقرآن الكريم، نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، ومعنى الدفع المذكور في الآية، هو الجهاد والقتال.
فالفلسطينيون أخرجوا من ديارهم بغير الحق، وتعرضوا لأبشع ألوان القتل والتشريد والتعذيب، ما بين الصهاينة وظلم أولي القربى، ولم تزل أرضهم محتلة، وفيها أقدس مقدسات المسلمين بعد بيت الله الحرام، وبالتالي فهم أحق وأولى الناس بالتدافع ضد بني صهيون، ومن والاهم.
وفي آية التدافع في سُورة "البقرة"، درس آخر شديد الأهمية فيما يتعلق بخروج أصحاب الحق وجنود الله تعالى لاسترجاع حقوقهم، وهو أن الله تعالى كتب على المستضعفين أن يقوموا بهذا الدور، لحكم إلهية متعددة الجوانب، ومن بين جوانبها، إذلال أهل الاستكبار والكفر، وإثبات أن ملكهم لا يساوي شيئًا أمام إرادة الله عز وجل، وأمام سلاح الإيمان الذي يخوض به المستضعفون حربهم ضد قوى الاستكبار، وتحرير رقاب الناس من عبوديتهم الزائفة.
فعندما كان بنو إسرائيل في مرحلة الاستضعاف، وكانوا هم حملة رسالة الله في أرضه، اختارهم الله عز وجل لإزالة ملك فرعون، الذي علا في الأرض، وملك أصحاب الكفر والشرك ممن سكنوا أرض فلسطين في ذلك الزمن، وكانوا من أصحاب القوة والبأس أيضًا.
وفي القرآن الكريم ما يؤكد ذلك، فيقول الله تعالى في سُورة "النِّساء": {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75)}.
"الأصل خروج المستضعفين لمواجهة الظالمين ومن سلبوهم حقوقهم، وانتهكوا إنسانيتهم، والتولي عن ذلك والتقاعس عنه ينزع عن المؤمنين صفة الإيمان وينقلهم إلى الفئة الخائنة الظالمة"
وفي سُورة "البقرة" أيضًا، هناك آية تؤكد على بعض المعاني التي ذهبنا إليها في هذا الحيِّز، وهو أن الظلم يحتم المقاومة، وأن العلو والاستكبار في الأرض بغير الحق، يفرض ظهور فئة مؤمنة بحقوقها، وتتسلح بإيمانها بالله، تواجه الفئة الباغية، فيقول الله تعالى، في بداية القصة التي وردت فيها آية التدافع السابقة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}.
خاتمة هذه الآية شديد الأهمية في التأكيد على الرسالة التي نسعى إليها في هذا الإطار، وهي أن الأصل هو خروج المستضعفين لمواجهة الظالمين ومن سلبوهم حقوقهم، وانتهكوا إنسانيتهم، وأن التولي عن أداء ذلك، والتقاعس عنه من جانب الفئة المؤمنة، ينزع عنها صفة الإيمان، ونقلها إلى خانة الفئة الظالمة.. "فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ".
وفي الأخير، فإنها تلك آيات الله تعالى، وقوانينه في العمران البشري، ومصير من يتحداها أو يخالفها الفناء والخسران المبين، في الدنيا والآخرة؛ لأنها حتميات شاءتها إرادة الله عز وجل، ولا راد لقضائه، وكل شيء في هذا الكون خاضع لمشيئته.