(4) جماعةُ العِشاءِ والفجْرِ بُرْهانُ صِدْقِ الإيمَان:
ليكُنْ حِرْصُك-أخي الحبيبُ- أشدَّ على شُهودِ جماعةِ العِشاءِ والفجرِ، فهما فصْلُ ما بين المؤمنِ والمنافقِ، وقد أخرج أبو داود وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا الصُّبْحَ، فَقَالَ: «أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «أَشَاهِدٌ فُلَانٌ؟» قَالُوا: لَا، قَالَ: «إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ، وَإِنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ عَلَى مِثْلِ صَفِّ الْمَلَائِكَةِ، وَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا فَضِيلَتُهُ لَابْتَدَرْتُمُوهُ، وَإِنَّ صَلَاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، وَصَلَاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكَى مِنْ صَلَاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وَمَا كَثُرَ فَهُوَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى».
وأخرج ابن أبي شيبة وصححه ابنُ خزيمة وابنُ حبان والحاكم عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الرَّجُلَ فِى صَلاَةِ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ أَسَأْنَا بِهِ الظَّنَّ».
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم النار على شهود صلاة الفجر، فقد أخرج مسلم عن عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لَنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» يَعْنِي الْفَجْرَ وَالْعَصْر.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ: آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: «وَأَنَا أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي».
ونقل البيهقي في معرفة السنن والآثار أن الشَّافِعِىَّ قَالَ: «فَيُشْبِهُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَمِّهُ بِأَنْ يُحَرِّقَ عَلَى قَوْمٍ بُيُوتَهُمْ أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ فِى قَوْمٍ تَخَلَّفُوا عَنْ صَلاَةِ الْعِشَاءِ لِنِفَاقٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ».
ولذلك فإنَّ عليكَ أيُّها الأخُ المسلِمُ أنْ تحرصَ على الجماعةِ وخصوصا صلاةِ الفجر والعشاء في المسجدِ، مهما تكن الظروفُ، ولو غَلَبَ على ظنِّك أنَّك لن تُدْرِكَ الجماعةَ الأولى؛ فقد أخرج أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا أَعْطَاهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلاَّهَا وَحَضَرَهَا، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَجْرِهِمْ شَيْئًا».
والمهم أن تكون حريصا على عدم التفريط أو التأخر بسبب من عندك ومن تكاسلك، فأما المعذور فلا إثم عليه، وقد أخرج مسلم وأبو داود واللفظ له عن أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ أَنْ تُؤَخِّرَ صَلَاةً حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ أُخْرَى».
(5) المسجِدُ وصلاةُ الجماعةِ أهمُّ مساراتِ الدَّعْوة:
إنَّ دعوتَنا أيُّها الإخوانُ هي دعوةُ الإسلامِ التي تنطلِقُ من المسجدِ؛ حيثُ ترتبِطُ القلوبُ وتتحَابُّ في الله، وقد كانَ مما يُوصِي به الإمامُ حسنُ البنَّا رحمه الله الإخوانَ في كلِّ شعبةٍ أو منطقةٍ لزيادةِ الترابُط؛ أنْ يحرِصُوا على الاجتماعِ في صلاةِ الفجْرِ معًا جماعةً مرةً كلَّ أسبوعٍ على الأقلِّ في مسجدٍ محدَّد.
كما أنَّ صلاةَ الجماعةِ التي نؤدِّيها في اليومِ خمسَ مرَّاتٍ ليستْ إلا تدريبًا يوميًّا على نظامٍ اجتماعيٍّ عمليٍّ، امتزجتْ فيه محاسنُ النُّظُمِ المختلفة؛ إذْ يحقِّقُ معنى المساواةِ، ويقضِي على الفوارقِ والطبقاتِ والعُنْصريةِ، ويحقِّقُ الوحدةَ والنظامَ في الإرادةِ والمظهرِ على السَّواء، ويُعَوِّدُ المؤمنَ على تصويبِ المخْطِئِ حتى لو كان هذا المخْطِئُ هو الإمامَ، ويعوِّدُ الإمامَ المخطئَ على تصحيحِ خطئِه والنزولِ عند الصوابِ، أيًّا كان مَنْ أرشدَه إليه، فماذا بَقِيَ بعد ذلك للنُّظُمِ المختلفةِ من فضلٍ على الإسلامِ وقد جمع محاسنَها جميعًا واتَّقَى كلَّ ما فيها من سيئات؟!
ولئنْ كان الانتظامُ على صلاةِ الجماعةِ وبخاصةٍ في الفجرِ شديدًا صعبًا على النفوسِ التي لم تَعْتَدْ هذه الطاعةَ المباركةَ؛ فإنها أيْسَرُ شيءٍ على الأخِ الصادقِ الذي ارتبطَ قلبُه بالمسجدِ والجماعةِ، وبإخوانِ المسجدِ والجماعةِ، حتى إنه لَيستيقِظُ للفجرِ من غير إيقاظٍ مهما كانت أشغالُه ومتاعبُه.
ثمَّ إنَّ المحافظةَ على الجماعةِ، وبخاصةٍ صلاةُ جماعةِ الفجرِ تملأُ المصلِّيَ نشاطًا، وتحلُّ عُقَدَ الشيطانِ التي يريدُ بها تخذيلَه وتخبيثَ نفسِه، ودفعَه للكسلِ والتفريطِ، وقد أخرج الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ، فَارْقُدْ.
"جماعةُ المسجدِ تغرِسُ في المؤمنِ روحَ الإيجابيةِ، وتنزعُ منه صفةَ السلبيَّةِ واللَّامبالاة، وتدفعُه إلى التحقُّقِ بالإسلامِ عمليًّا، والعملِ له وإرشادِ الدُّنْيا إلى سبيلِ الخيرِ الذي جاء به"
فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ، انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ».
فجماعةُ المسجدِ إذًا تغرِسُ في المؤمنِ روحَ الإيجابيةِ، وتنزعُ منه صفةَ السلبيَّةِ واللَّامبالاة، وتدفعُه إلى التحقُّقِ بالإسلامِ عمليًّا، والعملِ له وإرشادِ الدُّنْيا إلى سبيلِ الخيرِ الذي جاء به.
يقول الأستاذُ البنَّا: «ومن هُنا أيُّها الإخوةُ رأيْنَا أخِلَّاءَ المسْجِدِ، وأنْضَاءَ العِبَادَة (أي المجهَدُون من كثرةِ العبادَةِ)، وحَفَظَةَ الكتابِ الكريمِ، بل وأبناءَ الروابطِ والزوايا من السَّلفِ رضوانُ الله عليهم؛ لا يَقْنَعُون باستقلالِ بلادِهم، ولا بِعِزَّةِ قوْمِهم، ولا بتحريرِ شُعوبِهم، ولكنَّهم يَنْسَابُون في الأرضِ، ويَسِيحُون في آفاقِ البلادِ، فاتحينَ معلِّمينَ، يُحرِّرُونَ الأممَ كما تحرَّرُوا، ويَهْدُونَها بنورِ الله الذي اهتَدَوْا به، ويُرشِدُونها إلى سعادةِ الدنيا والآخرةِ، لا يَغُلُّون ولا يَغْدِرُون، ولا يَظْلِمُون ولا يَعْتَدُون، ولا يسْتَعْبِدُون الناسَ وقدْ ولَدَتْهُم أُمَّهاتُهُم أحرارًا».
فإلى المساجدِ أيُّها الأحبابُ، اعمُرُوها بالجماعاتِ والصلواتِ والذِّكْرِ والقرآنِ، واختلِطُوا فيها بالكرامِ من جماهيرِ أُمَّتِكم، وانطلِقُوا منها بالدعوةِ والتوجيهِ والإرشادِ للدُّنْيا بأَسْرِها، وعُودُوا إليها معَ كل نِدَاءٍ بالصلاةِ تَغْسِلُون أرواحَكم، وتستأنِفُون حركتَكم ونشاطَكم، وضَعُوا أيديَكم في أيدِي المخلِصين الراكِعين السَّاجِدِين، وتعاونُوا معهم علَى كلِّ بِرٍّ وتَقْوَى، واللهُ معكُم، ولن يَتِرَكُم أعمالَكم.