انتهت حرب "العصف المأكول"، وتوقفت قعقعة السلاح ولو مؤقتًا، وسواء أكانت استراحة محارب، أم هدنة طويلة الأمد تتحقق فيها بعض المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني المجاهد في قطاع غزة؛ فإنها في النهاية حققت أمامنا وأمام كل صاحب عقل وفطرة سليمتَيْن؛ مجموعة من القوانين العمرانية المهمة التي وضعها الله عز وجل في خلقه، وعلى رأسها سُنَّة التدافع.
انتصرت إرادة الغزاويين، وأثبتت كتائب الشهيد عز الدين القسَّام، وكتائب وألوية المقاومة في غزة، أنها الرقم الصعب، وأنها الصخرة التي تحطمت عليها نظرية الأمن القومي الصهيوني أكثر من مرة، وأن الحاضنة الجماهيرية، والتربية الجهادية السليمة، والمثابرة عليها، بعد تأييد الله سبحانه وتعالى، هي مفتاح سر نجاح أية تجربة فيها مثل هذه النوعية من المواجهات التاريخية ذات الطابع المستمر، مع عدو أقوى في العتاد والعدة، ويستند إلى قوى بغي واستكبار أقوى وأكبر.
ومهما كان تقييم الباحثين والمحللين لنتائج المعركة الأخيرة؛ إلا أنها تبقى معركة في حرب طويلة الأمد، ولكن المهم فيها بالفعل، هو ما بثته من رسائل وعلى رأسها رسالة شديدة الأهمية، وهي رسالة التربية الجهادية والإيمانية.
هذه التجربة التي تمت في قطاع غزة مستمدة من التجربة النبوية الكريمة في التربية، والتي تنم عن فهم كامل لطبيعة النفس البشرية، وقادت العرب إلى أن يكونوا سادة الأمم، وأكثرها تحضُّرًا، وذلك في بضعة عقود لا أكثر، ولمدة قرون طويلة، بعد أن كانوا مجرد قبائل متناحرة متنافرة، لا تعرف من مفردات الحضارة الإنسانية الكثير، وذلك من خلال التربية الجهادية والإيمانية السليمة.
وكان ولم يزل عِماد هذه التربية، مجموعة من المبادئ الرئيسية التي لا يمكن الاستغناء عنها، وعلى رأسها أن الإنسان بكل ما أوتي من قوة وثروة ومواهب وقدرات، وبكل ما لديه من مقدَّرات؛ إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى، وأن ما أوتيه في الدنيا، إنما هو هبات ومنح من الله عز وجل، وأن ما في ملكوت الله تعالى هو مُلك خالص لله عز وجل لا شريك له.
ومما يدخل في ذلك النفس الإنسانية والمال والأهل والولد.
القاعدة الثانية التي ترتكز عليها هذه المدرسة النبوية في التربية، وتم تطبيقها بشكل ناجح في حالتنا هذه، هي أن حياة الإنسان في الدنيا مؤقتة، وأنه في النهاية عائد إلى الله تعالى؛ حيث دار المُقامة والخلود، مهما كان المصير؛ جنةً أو نار.
وهو ما يعني كليتَيْن مهمتَيْن في حياة الإنسان، يجب على الإنسان الصحيح العقل والإيمان أن يدركهما، الكُلِّية الأولى، هي أن كل ما اكتسب في الدنيا من عمل، وقامت به جوارحه؛ سوف يُحاسب عليه، أما الثانية، فهي أن الدنيا زائلة، وأنها لا تستحق الصراع عليها، وخسارة الآخرة لأجلها بارتكاب شرار الأمور والمعاصي؛ إنما هو الخسران الأكيد.
والقرآن الكريم واضح في هذه النقطة، وكذلك صحيح الحديث النبوي، ولأهمية ذلك؛ فقد كان آخر مما نزل من القرآن الكريم، آية: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (181)} [سُورة البقرة].
القاعدة الثالثة هي التي تتعلق بحقيقة وجود الإنسان في هذه الدنيا وما هو المطلوب من الإنسان المسلم المؤمن لكي يحسن إسلامه وإيمانه، وعلى رأس ذلك كل ما يقيم عقيدة التوحيد في الأرض، ولذلك كانت الصلاة والجهاد على رأس تكليفات الإنسان، وفي ذلك يقول الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، في حديث معاذ بن جبل الشهير، الذي أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، عندما سأل معاذ "رَضِيَ اللهُ عَنْه"، الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، عن العمل الذي يدخله الجنة، ويُباعد بينه وبين النار.
في البدء قال الرسول "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "لقد سألتَ عن عظيمٍ وإنه ليسيرٌ على من يَسَّرَهُ اللهُ تعالى عليه"، وبعد أن أكد على عقيدة التوحيد، وأركان الإسلام الخمسة، وأهمية الصدقة والصوم وقيام الليل؛ قال "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذِروة سَنَامِهِ؟"، قال معاذ "رَضِيَ اللهُ عَنْه": "بلى يا رسول الله"، فقال "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ": "رأس الأمر الإسلامُ، وعَمُوده الصلاةُ، وذِروة سَنَامه الجهاد".
هذا الحديث الذي فيه جماع الإسلام، وأكد فيه الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، في تكملته، على أهمية رسالة الأخلاق مع النفس والناس، والأهم، مع رب العزة سبحانه وتعالى، جاء فيه أن الجهاد هو ذِروة سنام الإسلام.
التجارة الرابحة..
وبالرغم من التأكيد على حقيقة مهمة، وهي أن كل ما للإنسان، من مال ونفس وملاك، وكل شيء هو من الله، وإلى الله؛ إلا أن رب العزة العدل لم يتر الناس أعمالهم؛ فمنحهم عظيم الأجر والثواب على جهادهم في سبيله، وعوضهم خيرًا في الدنيا والآخر، في أربح وأضمن تجارة يمكن للإنسان أن يقيمها.
فهي تجارة مع رب العزة، العدل، الذي له مُلك السماوات والأرض، وخزائنهما، والذي وعد، وهو وعده الحق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، كما في آية "الروم".. يقول تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)}.
ويقول الله تعالى في آية سُورة "التَّوبة": {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}.
وذات المعنى ورد في سُورة "الصَّف"؛ فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)}.
وفي قصص الصحابة الأولين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ما يوضح أن هذه القيم كانت حاضرة في عقولهم ونفوسهم، بعد سنوات من التربية الجهادية والإيمانية في مدرسة الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ومن بين هؤلاء أبو يحيى صهيب بن الرومي، الذي ترك ماله كله خلفه لكي يهاجر خلف رسول الله "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، من مكة المُكرَّمة إلى المدينة المنورة، ودلَّ صناديد وأئمة الكفر هناك على مكان ماله لكي يخلُّوا بينه وبين هجرته في سبيل الله عز وجل.
وقال الحاكم في مستدرَكِه، إنه عندما بلغ خبره الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، قال له وهو يستقبله في المدينة: "ربح البيع أبا يحيى"، ثم تلا قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [سُورة "البقرة"- الآية 207].
ومما سبق، واستجابة لتعاليم الهدي القرآني والنبوي، وللمجاهدين في غزة، ممن صبروا وصابروا ورابطوا، من أهل غزة، ومن كتائب القسَّام الكِرام، نقول لهم: يا أسيادنا.. ربح البيع أبا يحيى!..