في واحدة من الفتن الكبرى التي عُرضت على جماعة المسلمين عبر التاريخ، والتي تتشابه جميعها في أنها صنيعة أعداء الأمة لاختراقها، وتفتيت الصف الإسلامي؛ أعلنت مجموعة غامضة النشأة والتركيب والتمويل، "الخلافة الإسلامية" على بعض أراضي بلاد الشام في سوريا وبلاد الرافدين.
أعاد هذا الموقف إلى الأذهان تاريخ الحركات الهدامة التي ظهرت في مواقف كثيرة تنازع المسلمين في حياتهم، وتفتنهم في عقيدتهم، مثل حركات الشعوبيين والزنادقة والزنج والقرامطة والحسن بن الصباح، التي استهدفت الخلافة العباسية في أكثر من مرحلة تاريخية.
ولعل التشابه الكبير واضح بين محاولة قرامطة اليوم وقرامطة الأمس، تفتيت صف المسلمين، من خلال مزاعم وهمية حول خليفة منتظر يقود الأمة، ويطبق الشريعة الإسلامية -وفق مفهومه- ويعيد للأمة مجدها الزائل!، وتكون النتيجة المزيد من إضعاف الجبهة الداخلية للأمة في مواجهة أعدائها الذين يحاولون سرقة ثرواتها وخيراتها، وإفناء حضارتها.
"التشابه واضح بين محاولة قرامطة اليوم وقرامطة الأمس، تفتيت صف المسلمين، من خلال مزاعم وهمية حول خليفة منتظر يقود الأمة، ويطبق الشريعة -وفق مفهومه- ويعيد للأمة مجدها الزائل! وتكون النتيجة المزيد من إضعاف الجبهة الداخلية للأمة في مواجهة أعدائها"
تأتي الفتنة هذه المرة في ظل ظرف شديد الحساسية؛ حيث الحرب على أشدها على المشروع الإسلامي الصحيح للنهضة والتطور الحضاري، وهو المشروع الذي عبرت عنه إرادة الأمة في ثورات الربيع العربي، مع محاولة كسر هذه الإرادة، وإعادة الأمة قرونًا طويلةً إلى الوراء.
ولعل الهدف الأساسي من وراء ذلك، من جانب أعداء الأمة، هو ضمان ألا تحاول مرة أخرى الخروج على إرادة قوى الاستعمار والاستكبار العالمي، وأذرعها الطويلة داخل البلدان العربية والإسلامية، ممثلة في المشروع الصهيوني وأنظمة الفساد والاستبداد القائمة.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هناك أكثر من علامة استفهام حول ما يجري، وحول هذا التنظيم- تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية "داعش" الذي أعلن "الخلافة" على رقعة من الأرض مقتطعة من سوريا والعراق.
فأولاً هناك الظهور المفاجئ له، وغموض أصله؛ حيث لا يعلم أحد على وجه الدقة من هو زعيمه أبو بكر البغدادي، ولا من أين جاء، ولا من أين يأتي بتمويله، ولا بمقاتليه، ولا كيف يسيطر ببضعة آلاف منهم على مدن كاملة، يزيد تعداد بعضها على أربعة ملايين نسمة، مثل الموصل.
ومنذ بواكير الإعلان عن وجوده، في سوريا، بدا تنظيم "داعش" خارجًا عن الصف الإسلامي، سواء بممارساته على الأرض، أو من خلال أجندته السياسية التي تختلف تمامًا عن أجندة الفصائل الإسلامية الأخرى التي تقاتل نظام بشار الأسد في سوريا، وهو ما دعا حتى تنظيم القاعدة، إلى إعلان تبرئه من "داعش"، والقول إنه لا يمثل امتداد التنظيم في سوريا.
هناك كذلك "الوحشية" غير المسبوقة من جانب "داعش" في التعامل مع إخوانه المسلمين؛ حيث مارس أقصى درجات الإقصاء الذي شمل القتل المستهدف، ضد مختلف الفصائل الإسلامية الأخرى في الأماكن التي يسيطر عليها، بما في ذلك جبهة "النصرة" الإسلامية في سوريا، والإخوان المسلمين في العراق، وغيرهم.
والأهم، فيما يثير علامات الاستفهام حول هذا التطرف المُستَجد على الساحة، والذي ظهر بشكل مفاجئ، هو أثره السياسي.
"ما قام به تنظيم "داعش" في سوريا، أدى إلى تحويل بوصلة الاهتمام الدولي من جرائم النظام السوري ضد شعبه، وقاد إلى تخفيف الضغوط عن نظام بشار، أما في العراق؛ فقد أفسد هذا التنظيم ثورة أهل السُّنَّة ضد نظام رئيس الوزراء السابق الطائفي نوري المالكي"
فما قام به في سوريا، أدى إلى تحويل بوصلة الاهتمام الدولي من جرائم النظام السوري ضد شعبه، إلى ملف ما يُعرف بـ"الإرهاب الدولي"، وقاد إلى تخفيف الضغوط عن نظام بشار، أما في العراق؛ فقد أفسد تمامًا هذا التنظيم ثورة أهل السُّنَّة ضد نظام رئيس الوزراء الطائفي نوري المالكي.
الأخطر من ذلك، هو إعلان التنظيم لما أطلق عليه اسم "دولة الخلافة الإسلامية"، وتعيينه لأبي بكر البغدادي خليفة على المسلمين؛ حيث هذا هو مكمن الفتنة الحقيقية.
فالمتابع المُدقِّق للأمور؛ سيجد أن المسلمين المهتمين بأمور دينهم، قد انقسموا انقسامًا كبيرًا إزاء هذا الحدث، ووصل الأمر إلى القطيعة بين البعض، وإلى حد قتل المعارضين لهذا الأمر في المناطق التي تسيطر عليها "داعش"، بالرغم من أن الأمر محسوم فقهيًّا.
فإعلان الخلافة لا يمكن أن يتم إلا بعد أن يعلن عدد كاف من ممثلي الشعوب الإسلامية ولاءهم للخليفة الجديد، تبعًا لما كانت تتم عليه البيعة في عهد الخلفاء الراشدين المهديين من بعد الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"؛ فلا يوجد أي إجماع الآن، ولا حتى تأييد لغالبية المسلمين، لهذا الإعلان.
كما أن عملية الإعلان ذاتها لم تراع ذلك؛ أي لم تعمل على أخذ رأي المسلمين عبر العالم، ولم تتم أية محاولة من أي نوع لذلك، ويبدو أنه إما أن الأمر فيه استخفاف من جانب هؤلاء بالقواعد الشرعية الضابطة لهذا الأمر، أو أنهم قرروا أنهم هم فقط المسلمون، وأن الباقين غير ذلك، أو أن الأمر يخرج عن نطاقهم، وأنهم بالفعل صنيعة آخرين، فيتحول الأمر إلى نطاق القوى التي أسستهم وتدعمهم وتحركهم لتدمير رابطة الإجماع الإسلامي.
ولن نتكلم هنا عن سلوك "داعش" تجاه غير المسلمين، وخصوصًا أهل الكتاب من المسيحيين في الموصل وشمال العراق، والذي يخالف أبسط قواعد وثيقة المدينة التي أطلقها الرسول الكريم "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، عند وضعه للبنة الدولة الإسلامية؛ فما يتم بمجمله لا يحترم أية مفاهيم إسلامية، ولا يحمل أية ضوابط شرعية، ويفتح المجال لفوضى كبيرة في الاجتهادات بعيدًا عن أهل الحل والعقد داخل الأمة، وبعيدًا عن علمائها، وهو باب آخر للفتنة لا يعلم مداه إلا الله تعالى، ولا يخدم المشروع الإسلامي.
فمبدئيًّا لا يوجد أي نصٍّ قرآنيٍّ أو نبويٍّ يتحدث عن شكل ما للتدافع البشري سيتم من خلاله استعادة دولة الخلافة الإسلامية، والتي سوف تكون على منهاج النبوة؛ فلم يُشِر القرآن الكريم أو صحيح السُّنَّة النبوية الشريفة، إلى أن استعادة دولة الخلافة سوف تكون من خلال حرب أو ما شابه، أو حتى من خلال حِراك سلميٍّ.
فما ورد في هذا الأمر، هو حديث النعمان بن البشير "رَضِيَ اللهُ عنه"، عن الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أنه قال: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون مُلكًا عاضًّا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون مُلكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" ثم سكت [أخرجه أحمد، وصححه الألباني وحسَّنه الأرناؤوط].
فلم يذكر الحديث الشريف شيئًا حول كيفية استعادة الخلافة الإسلامية، في المقابل؛ فإن الإسلام عندما نزل على صدر النبي "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، تعامل مع صور العمران البشري التي كانت قائمةً في ذلك الحين، مثل العشيرة والقبيلة، وتفاعل معها بشكل إيجابي؛ فلم يسعَ لتدميرها أو إفنائها؛ وإنما تعامل معها، بل إنها زاد عن ذلك بتطويعها في سبيل تمكين دين الله عز وجل في الأرض.
فالصحيح الثابت من سيرة المصطفى "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أنه كان في بداية سنوات البعثة، يتعامل في دعوته مع القبائل العربية التي كانت تسكن مكة المكرمة وما حولها في شبه جزيرة العرب.
وكان تعامله "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، مع القبيلة مؤسسيًّا؛ فهو "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، لم يكن يتعامل مع أفرادها باعتبارهم بشرًا يسعى إلى هدايتهم فحسب؛ وإنما كان يتعامل مع سادة القبائل ونقبائها، انطلاقًا من فهم صحيح للبيئة التي يتحرك فيها؛ حيث كان موقف سادة القبائل وزعماء العشائر شديد الأهمية في دفع المزيد من أبناء القبائل والعشائر التي ينتمون إليها، إلى دخول الإسلام.
وفي سُنَّة الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، أيضًا الكثير من المواقف التي توضح أن الإسلام عندما نزل اعترف بالأمر الواقع فيما يخص قضية العمران البشري الموجود، وتعامل مع هذا الواقع تعاملاً صحيحًا من الزاوية السياسية، وهي في الإسلام، ما تتحقق معه المصلحة العامة للدعوة وللمسلمين.
وفي الأخير، وبجانب التأصيل الشرعي والفقهي لما يجري؛ فإن هناك اعتبارًا مهمًّا لو وُضِعَ في الحسبان؛ لكفى في التأكيد على بطلان وزيف هذا الذي يتم على أرض بلاد الشام باسم الخلافة، وهو انتفاء مصلحة الإسلام والمسلمين فيه، بل وتسببه في الكثير من الضرر للحضارة الإسلامية بأكلمها.