لقد جاء الإسلام ليتعامل مع النفس البشرية كما هي، دون تطرف أو حرمان لما فيه مصلحتها أو لذتها أو متعتها، طالما لم يكن فيه ضررا محتماً يعود عليها، والإسلام راعى الطبيعة البشرية ورغبتها فلم يحرمها أو يحرّم عليها شيئاً دون سبب جلي وواضح، خاصة ما ترتاح له النفس وتهنأ به، بل إن الإسلام نظم ورتب شؤون المسلم في كل حياته اليومية، فعزز كل ما فيه مصلحة البشر وحارب كل ما يؤذيها يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ".. فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" (رواه مسلم).
ومن هذه الأمور التي راعاها الإسلام راحة القلب، وحب اللهو والمرح، والضحك والمزاح، فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً وَسَاعَةً"؛ والنبي صلى الله عليه وسلم مازح أصحابه وكان لا يقول إلا حقاً، وأذن لعائشة أن تنظر للأحباش يتلاعبون في المسجد وقال: "لِتَعْلَمِ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بَحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ" (رواه أحمد)، وعن عائشة رضي الله عنها: "أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقتُه فسبقتُه على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة".
ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما رواه الإمام أحمد في المسند بسنده إلى عبد الحميد بن صفي عن أبيه عن جده قال: إن صهيباً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز، فقال: «ادن فكل». قال: فأخذ يأكل من التمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن بعينيك رمدا». فقال: يا رسول الله، إنما آكل من الناحية الأخرى، قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول عوف بن مالك الأشجعي أتيت رسول الله في غزوة تبوك وهو في قبة من آدم، فسلمت فردّ وقال: "ادخل. فقلت: أكُلّي يا رسول الله؟ قال: كلّك، فدخلت" قال عثمان بن أبي العاتكة: إنما قال: (أدخل كلي) من صغر القبة. (رواه أبو داود وأحمد).
وكان من عجيب مزاح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صحابي جليل اشتهر بالمزاح وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك له ولمزاحه وهو الصحابي الجليل نعيمان الأنصاري، وله عدة مواقف وردت في السيرة النبوية لمزاحه رضي الله عنه.
منها أن أعرابياً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأناخ ناقته بفنائه، وكانت – ناقة – فتية سمينة، فقال بعض أصحاب نُعيمان: لو عقرتها فأكلناها. فإنا قد قرمنا إلى اللحم. فقام نُعيمان وعقر الناقة.
فخرج الأعرابي من عند النبي صلى الله عليه وسلم ووجد ناقته تُسلخ، ونُعيمان يتولى توزيع لحمها. فصاح: يا محمد، واعقراه: واناقتاه.
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "من فعل هذا؟" فقالوا: النُعيمان. فأتبعه يسأل عنه، حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. واستخفى تحت سرب (دكة تكون خارج الغرفة) فوقه جريد.
فأشار بعضهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكانه: فأمر بإخراجه. وقال له: ((ما حملك على ما صنعت؟))
قال: الذين دلوك عليّ يا رسول الله، هم الذين قَرِموا إلى اللحم، وأمروني بعقر الناقة.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يمسح التراب عن وجهه، ثم غرم ثمنها للأعرابي. (انظره في ترجمته في الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة).
وحديث محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: كان بالمدينة رجل يقال له نعيمان, وكان لا يدخل في المدينة رسل ولا طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا هدية لك.
فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه من نعيمان جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعط هذا ثمن هذا، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو لم تهده لي"؟ فيقول يا رسول الله لم يكن عندي ثمنه، وأحببت أن تأكله، فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم, ويأمر لصاحبه بثمنه.
"من ضوابط المزاح أن لا يكون فيه ترويع أو أذية لمسلم، ولا يكون فيه كذباً، أو إهانة أو سخرية"
ضوابط هامة في المزاح:
لقد ضبط الإسلام المزاح بعدة ضوابط لا يجب الخروج عليها؛ منها:
1. أن لا يكون فيه ترويع لمسلم: وذلك أن أصحاب رسول الله كانوا يسيرون مع رسول الله في مسير فنام رجل منهم فانطلق بعضهم إلى نبل معه فأخذها فلما استيقظ الرجل فزع فضحك القوم فقال: ما يضحككم فقالوا: لا، إلا أنا أخذنا نبل هذا ففزع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً". (رواه أحمد في مسنده ونحوه أبو داود).
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جاداً ولا لاعباً، وإذا وجد أحدكم عصا صاحبه فليردها عليه" (رواه أحمد في مسنده وأبو داود).
2. أن لا يكون مزاحه كذباً: قال صلى الله عليه وسلم: "ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له". (رواه الترمذي وأبو داود والدارمي).
وقال عليه السلام: "إن الرجل ليتكلم الكلمة لا يريد بها بأساً إلا ليضحك بها القوم فإنه يقع فيها أبعد ما بين السماء والأرض". (رواه أحمد).
3. أن لا يؤدي هذا المزاح إلى أذية لمسلم: روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار.
4. أن لا يكون فيه إهانة أو سخرية؛ قال تعالى: {ياأيها الذين ءامنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} [الحجرات11].