مضى على العدوان الصهيوني على قطاع غزة ما مضى من وقت، أبرزت فيه الحوادث الكبار التي جرّت الكثير من الأمور والحقائق التي يجب الوقوف عندها مليًّا، والتي تُعتبر في محتواها تطبيقًا شديد الأهمية لقوانين ربانية عديدة في العمران البشري، وخصوصًا فيما يتعلق بسُنَن التدافع التي تكلم عنها القرآن الكريم في أكثر من موضع، كما في سُورتَيْ "البقرة" و"الحَجْ".
وآية سُورة "البقرة"، التي يقول الله تعالى: فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)، أقرب- في محتواها التطبيقي التاريخي، إلى تلك الحالة التي نناقشها في هذا الموضع.
فالآية أتت في سياق الحديث عن الصراع الذي وقع بين بني إسرائيل، وقتما كان فيهم الإيمان، ووقتما كانوا يحملون رسالة الله عز وجل في الأرض، مع أهل الكفر والباطل في فلسطين، الأرض التي بارك الله تعالى فيها وحولها.
وذكرت الآية أكثر من قيمة يجب الالتفات لها في هذا الإطار، القيمة الأولى، أن النصر بإذن الله تعالى، وأن الله عز وجل هو الذي يضع الحدود والخطوط الفاصلة التي تضمن استمرار الصراع بين الخير والشر، بين قوى الحق والباطل، بين المستضعفين المؤمنين، وبين قوى الاستكبار الكافرة، حتى ظهور الحق على الباطل في منتهى الزمان، باعتبار أن هذا الصراع قانون إلهي يجب أن يستمر لتحقيق سنن أخرى أرادها الله تعالى في خلقه، مثل اختبار أهل الحق، وتمييزهم عن أهل الباطل.
والدليل على ذلك، ما يجري في غزة نفسها الآن؛ حيث نفس الموقف، مع اختلاف الأطراف، فهناك قوى الحق من المستضعفين في الأرض، تقاتل قوى الشر والاستعمار الظالمة الباغية، وتتصدى قِلَّة من جماعة المؤمنين بسلاحها وعتادها القليل، لقوى أكبر منها.
يطرح الصراع الراهن- أيضًا- قضية مهمة في اشتراطات النصر، وهي أن الأخذ بالأسباب مع الإخلاص؛ يضمن تحقيق الهدف مهما كان الواقع القائم معتمًا أو يدعو إلى اليأس والركون، وأن المدد الإلهي يأتي من علم الله عز وجل بأن جماعة المسلمين قد أخذت بكل ما يمكن لها أن تأخذ به بالأسباب -مهما كانت، ولو بحشد رجل واحد- مع استحضار النية والإخلاص؛ فإن المعينة الإلهية تتنزل على القوم المرابطين.
والواقع يؤكد ذلك؛ حيث نجحت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وكتائب الشهيد عز الدين القسَّام، كطليعة للمقاومة الفلسطينية، وللشعب الفلسطيني، في تجاوز كل الحصار الذي فُرِضَ على المقاومة، في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية المحتلة، وتحقيق أعلى قدرٍ من الاستعداد؛ للدرجة التي استطاعت بها الصمود أمام العدو الصهيوني، وإيقاع أكبر قدرٍ ممكن من الخسائر السياسية والاقتصادية، و- الأهم- النفسية، به، مع وصول صواريخ المقاومة إلى مختلف أرجاء المدن المحتلة.
"التربية الإيمانية السليمة، تصنع الكثير من المعجزات، وهو ما يخبرنا به واقع أهل غزة، ومقاوميها؛ حيث الثبات في المعركة، وصل إلى درجة أذهلت الكثيرين، وهو ما لم يكن ليحدث لولا حُسن التربية وعمق التنشئة الإيمانية والفكرية والنفسية للفرد والمجتمع"
هذا الوضع لم يكن ليتأتى، لولا توافر الشروط التي وضعها الله عز وجل في قوانينه العمرانية في مثل هذه الحالات، مثل حسن الإعداد والتخطيط، وحسن اختيار الأفراد، وتدريبهم، ورسم السياسات وتوجيهها، وغير ذلك من الأمور المرتبطة بالحدث.
كما أن التطورات الآنية على الأرض، أثبتت أن التربية الإيمانية السليمة، تصنع الكثير من التأثيرات التي تصل إلى درجة المعجزات، وهو ما يخبرنا به واقع أهل غزة، ومقاوميها؛ حيث الثبات في المعركة، وصل إلى درجة أذهلت الكثيرين، وهو ما لم يكن ليحدث لولا حُسن التربية وعمق الوصول بالتنشئة الإيمانية والفكرية والنفسية للفرد والمجتمع، إلى مستوى يقبل به الجميع، أية تضحيات في مقابل الوصول إلى الهدف المنشود، نحو استعادة الحقوق العادلة المسلوبة.
نأتي هنا إلى القضية الأهم، التي كشفت عنها الحرب الحالية، وتتعلق بالواقع السياسي الفلسطيني الداخلي، والإقليمي العربي؛ حيث شاهت وجوه البعض عندما عمدوا -وبشكل واضح لا مداراة فيه- إلى تأييد العدوان الصهيوني على قطاع غزة، باعتبار أنها فرصة ثمينة للتخلص من حركة "حماس"، أهم الخصوم السياسيين لهذه الأطراف.
كانت ولا تزال السلطة الفلسطينية، والقاهرة الانقلابية الرسمية على رأس هذه الأطراف، والتي خلط بعضها الأوراق بين الخصومة السياسية مع الإخوان المسلمين، وقضية الصراع مع العدو الرئيسي والحقيقي للأمة، وهو "إسرائيل"، بينما بعض هذه الأطراف يدعم "إسرائيل" لخلاف "عقائدي" مع "حماس"، كما قال وزير الخارجية المصري، سامح شكري.
تطرح هذه المواقف -الشديدة الوضوح في التصريحات والتحركات الرسمية، لكي لا نكون متجنين على أحدٍ- قضية شديدة الأهمية وهي قضية الولاء والبراء في الإسلام، والتي لا تقل في أهميتها العقيدية، عن قضية الحاكمية.
فالحرب على غزة هي -ببساطة- عدوان من جانب اليهود على جماعة من المسلمين، يقتل فيها اليهود مسلمين.
ومن بين تحرير المفاهيم أيضًا، أن نؤكد على أن اليهود هم أعداء الله، وهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا.. يقول تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ [سُورة "المائدة"- مِن الآية 82].
ومن بين ما يرتبط بذلك، محاولة اليهود قتل رسول الله "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم"، ثلاث مرات، أشهرها يوم وضعوا السم في الشاة، حتى قال النبي "صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم": "إني لأجد في حلقي طعم الشاه المسمومة" [أخرجه مسلم[.
تقود هاتان الحقيقتان إلى قضية الولاء والبراء، والولاء والبراء شرعًا يعني -الولاية- النصرة والمحبة والإكرام والاحترام والكون مع المحبوبين ظاهرًا وباطنًا، أما البراء، فهو البُعد والخلاص والعداوة بعد الإعذار والإنذار، كما ورد في كتاب "الفرقان" لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية.
ويقول ابن تيمية، الذي اعتبر الولاء والبراء جزء من عقيدة كل مسلم: "إن تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، يقتضي أن لا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي إلا لله، ولا يعادي إلا لله، وأن يحب ما أحبَّه الله، ويبغض ما أبغضه الله".
والقرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النبوية الشريفة، فيهما الكثير من الأدلة الشرعية التي تؤكد عقيدية قضية الولاء والبراء، ونكتفي في هذا الموضع -بما أننا لسنا في معرض بحث شرعي عن الولاء والبراء- بالآيات الكريمات التي وردت في سُورتَيْ "التَّوْبة" و"المائدة".
ففي قضية الولاء، يقول سبحانه وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سُورة "التَّوْبَة"- الآية 71].
"من مظاهر موالاة الكافرين التي حذر منها القرآن الكريم، مداهنتهم ومداراتهم، وطاعتهم فيما يقولون وفيما يشيرون به، ومشاورتهم في الأمور، ومجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم"
أما في عقيدية البراء، ففي سُورة "المائدة"، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)، ويقول تبارك وتعالى كذلك: تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81).
ومن بين مظاهر موالاة الكافرين التي حذر منها القرآن الكريم، كما يقول العلماء، مداهنتهم ومداراتهم، وطاعتهم فيما يقولون وفيما يشيرون به، ومشاورتهم في الأمور، ومجالستهم ومزاورتهم والدخول عليهم.
وهو بالضبط ما يتم حاليًا مع الكيان الصهيوني، من جانب بعض الرسميين الفلسطينيين والعرب، في الأزمة الراهنة، فإداناتهم لـ"حماس" جاهزة، ومبادرات إنقاذ دولة الاحتلال جاهزة، والتحالفات مع الغرب ضد "حماس" جاهزة، وكأن "حماس" والمقاومة هي التي تقتل وتحاصر في غزة!!
إن معركة "العصف المأكول"، التي ظهرت فيها آيات من آيات الله عز وجل، لتستحق في ظل هذا الذي نقول، اسم آخر، وهو: الكاشفة؛ حيث كشفت عن المواقف، ومايزت بين الأطراف، وأظهرت مختلف الأمور على حقيقتها، وأعادت تحرير مختلف مفاهيم الصراع والسياسة في المنطقة.