إنَّ تدبر آيات كتاب الله ذات المعاني المباركة التي لا ينضب معينها يحتاج إلى بصيرة منيرة وفهم ثاقب، والتدبر عند أهل اللغة هو التفكر. ولكنَّ مادة الكلمة تدور حول أواخر الأمور وعواقبها وأدبارها، فالتدبر هو النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه، ومن هنا نستطيع أن نفهم أنَّ التدبر هو التفكر الشامل الواصل إلى آخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة.
والغاية من إنزال القرآن الكريم هي أن يتدبر الناس آياته، وليس الغرض من ذلك الترف العلمي وإنَّما الوصول إلى التذكّر والعظة والعمل بموجب هذا العلم. وقد جاء التأنيب الشديد للذين أعرضوا عن القرآن وهجروه ولم يدّبروا آياته ليفهموا دلالاتها ويهتدوا بهديها ويعملوا بما جاءت بها، فقال الله تعالى :{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ}. [المؤمنون:86].
نعرض في هذه الأسطر كتاباً قيّماً يغوض بنا صاحبه في تأصيل القواعد التي تقودنا نحو التدبّر الأمثل لكتاب الله عزّوجل بعد تجربة شخصية حافلة بالدراسة والتأمّل؛ يحدّثنا عنها بقوله في مقدمة الكتاب: "خلال ممارستي الطويلة للتدبر في القرآن العظيم ، ومطالعتي لتفاسير المفسرين على اختلاف مناهجهم، تكشف لي جملة قواعد هادية لمن أراد أن يتدبر كلام الله بصورة فضلى، فأنا أكتبها لمن شاء أن ينتفع بها، فقد وجدت بالممارسة أنها ذات نفع عظيم للمتدبر وتصلح منهجاً يحتذيه المتدبرون للقرآن".
في كتابه "قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عزّ وجل" يعرض الدكتور عبد الرّحمن حسن حبنكة الميداني -رحمه الله– أربعين قاعدة سعى من خلالها إلى أن تكون فاتحة لعلم "التدبر" وهادية للمتدبرين ووسيلة تسديد وهداية للباحثين الحريصين على فهم كتاب الله، وما تضمّنه من علم جليل وهداية عظيمة.
"خلال ممارستي الطويلة للتدبر في القرآن، ومطالعتي لتفاسير المفسرين على اختلاف مناهجهم، تكشف لي جملة قواعد هادية لمن أراد أن يتدبر كلام الله بصورة فضلى"
ولكي نفهم منهج المؤلف في تصنيفه كتابه نختار ثلاث قواعد من القواعد التي ساقها للتوصل إلى التدبر الأمثل لكتاب الله عزّ وجل، وأوّل هذه القواعد (تتبع التفسير بالمأثور لمعنى النص)، يقول فيها المؤلف: (على متدبر كلام الله أن ينظر في التفسير بالمأثور للنص القرآني، فهي حريٌّ أن يكون في كثير من الأحيان فهماً صحيحاً، وإن لم يكن كاملاً شاملاً لكل ما يهدف إليه النص القرآني، ويشمل التفسير بالمأثور ما فهمه الصَّحابة والتابعون).
ومن هذه القواعد: (الربط بين الآيات وخواتيمها): حيث يقول المؤلف: (إنَّ خواتيم الآيات قد تلقي الضوء على المراد ممّا جاء فيها، وعلى المتدبّر للآية القرآنية أن يبحث عن التناسب والترابط بين مضمون الآية وما جاء في آخرها من قضايا كلية).
ومنها: قاعدة (توجيه الخطاب الرّباني)؛ حيث تناولت خطاب النّاس بصفة عامة وخطاب الذين آمنوا على وجه الخصوص. وخلص الكاتب إلى أنَّ الأصل في الخطاب الرّباني ولو بعد نزول القرآن أنَّه فوق الزّمن وخارج حدوده، وهو قائم بلا تجدّد، كما أنَّ خطاب الله للرّسول شامل للمؤمنين ما لم يثبت تخصيصه، أمَّا خطاب المفرد في القرآن خطاب كل فرد يصلح للخطاب.