كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن فكرة استخدام العنف ضد الأنظمة الحاكمة، وما يترتب عليه من مخاطر وآثار وخيمة على الصف الإسلامي، بالإضافة إلى أهمية الاعتماد على السلمية في مواجهة الطغيان والاستبداد والظلم. وسنخصص هذا المقال للحديث عن مبررات البعض لاستخدام العنف وترك السلمية في ظل الظروف الراهنة.
حمل السلاح .. البادئ أظلم
يعتبر مؤيدو حمل السلاح واستخدام العنف ضد السلطة أنه أنسب أسلوب للرد على ظلم السلطة وسفكها لدماء الأبرياء، فهي التي بدأت بذلك دون وجه حق إلا أن معارضيها عبروا عن رفضهم لتصرفاتها، وخرجوا للشوارع معبرّين عن وجهة نظرهم ودفاعهم عن شرعيتهم وانتخاباتهم. ومع ذلك لم تراع السلطة أي اعتبار لسلميتهم وأزهقت أرواحهم، فلا يوجد رد غير هذا الرد.
ومع تسليمنا بصحة جزء كبير مما قالوا به، إلا أن النظر للمآل الذي أشرنا إليه في المقال السابق لابد أن يحكم تصرفاتنا ومواقفنا، فلو فرضنا أن الناس حملوا السلاح ضد السلطة فماذا سيجنون غير القتل والقتل المضاد، وسيوضعون مع القاتل في نفس الخانة، لأن القاتل ليس مميزاً عنهم، بل ستنتشر ثقافة الثأر داخل المجتمع، وحالة من الانقسام الذي لا يمكن أن يزول مع تقدم الزمن.
قد يعترض البعض على هذا بأن المجتمع أصبح منقسماً دون استخدام العنف، وهنا لا بد أن ننبه إلى أن للظالم من يؤيده ويقف معه، إما انتفاعاً أو خوفاً أو دون وعي، والكثير ممن وقفوا مع الظالم تراجعوا عن مواقفهم من دعم الظلم بسبب ثبات المعارضين وسلميتهم واتضاح حقيقة الظالم المجرم، وكشف وجهه الحقيقي الذي طالما سعى لإخفائه عنهم.
إن تبني خيار العنف، يخلق لدى كثير من مؤيدي الطاغية والمستبد حالة من اللارجوع، والثبات على الموقف، إما بسبب الثأر، أو الخوف من القتل والتصفية، وهو ما يزيد الأمور تعقيداً.
وفي ذات الوقت، هل تستطيع الجماهير أن تواجه دولة بأسلحة ثقيلة وآليات عسكرية؟!، وما هي النتائج التي ستترتب على ذلك سوى التدمير والخراب؟!
تشابه التجارب ليس مبرراً
كثيرٌ ممن يدعون إلى استخدام الخيار المسلح، يستدلون بما فعلته حركة حماس من عدم رضوخها للاحتلال الصهيوني رغم ما يملك من أسلحة، وعدم اكتفائها بالمظاهرات والمسيرات، وهي فرع من الإخوان المسلمين، والقياس هنا –كما يقوله علماء الأصول- قياس مع الفارق، إذ تختلف الصورة بين فلسطين وغيرها.
فاليهود محتلون قادمون من دول أخرى ليستوطنوا في الأرض ويغتصبوا المقدسات، وقتالهم هنا جائز بلا خلاف، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} [التوبة:123]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد" (أخرجه أصحاب السنن وأحمد بسند صحيح).
والأصل أن تقوم الأمة بدعم الفلسطينيين بالمال والسلاح والعتاد والرجال، لتحرير مقدساتهم وأرضهم؛ لأننا نتعامل مع احتلال صحيح مكتمل الأركان، وليس عن ظالم استبد وطغى، كما أن الآثار المترتبة على كل من الأمرين مختلفة تمام الاختلاف، فرغم أن الأولى هي حرب ضد محتل وغاصب، تقرها الأديان والمواثيق الدولية، إلا أن الثانية لا تصور إلا على أنها صراع على السلطة فحسب.
"إن ما يحدث في بلد معين من صراع مسلح لظروف مختلفة، ليس بالضرورة أن يستنسخ بكافة حذافيره على دولة أخرى، فهذا يعتبر مثالاً على قصر النظر والرؤية"
وهو نفس الأمر الذي نظر له البعض لحركة حماس حينما قامت بالحسم العسكري في غزة، رغم اضطرارها إليه واجتهادها في هذه المسألة كون مفاسد القيام به لا تقارن بمفاسد عدم القيام به، ومع ذلك كان صعباً على بعض الناس أن تتفهم جدوى ورؤية حماس لتصرفها.
إن الأصل في الحركات الإسلامية أن تتجنب الصراع المسلح مع الأنظمة الحاكمة واستخدام العنف بقدر طاقتها لما يجلبه من نتائج وخيمة، إلا إن اضطرت إليه، وفق ظروف يقدرها أهل الاختصاص والرؤية، رؤية تدرس بروية احتمالات العواقب والنتائج على مثل هذه الأفعال. كما أن ما يحدث في بلد لظروف معينة، ليس بالضرورة أن يستنسخ بكافة حذافيره على دولة أخرى، فهذا يعتبر مثالاً على قصر النظر والرؤية.
وفي هذا الإطار لابد أن نعرّج قليلاً لوجهة النظر الشرعية لهذه المسألة، حيث ينص أهل السياسة الشرعية على طرق التعامل مع الحاكم حال انحرافه وتعديه على الأمة، بالأمور التالية:
- الأصل أن يلجأ إلى نصيحة الحاكم والعمل على إصلاحه سلمياً قبل عزله وتغييره؛ نظراً لما يجره ذلك من مفاسد ومخاطر. ولا يصح أن يبدأ تغيير المنكر بالقتال إذا كان الحاكم يستجيب للنصح والإرشاد. ولا بد من العمل على تغيير المنكر عن طريق الوسائل القانونية والسلمية، كالمشاركة في البرلمانات والوزارة، وعن طريق الأساليب السلمية للمعارضة والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها، قبل اللجوء إلى الانقلابات والأمور العسكرية.
- إن القول بعدم الخروج المسلح على الحاكم، لا يعني رفض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يقل أحد ممن ذهب إلى عدم جواز الخروج على الإمام أن أمر الإمام الجائر بالمعروف ونهيه عن المنكر قد سقط عن الأمة.
- يجوز الخروج على الحاكم وحمل السلاح، إذا كانت المفسدة المتوقعة من بقاء الحاكم أعظم من الخروج عليه، كأن كانت الدولة ضعيفة، وكان الحاكم ظالماً، يقتل المسلمين، ويسفك دماءهم، وينتهك حرماتهم، بحيث يتنافى وجوده مع الحد الأدنى من مقاصد الإمامة.
ولم ينفع معه طرق الإصلاح السلمية أو محاولة إسداء النصح، أو لم يوجد أي فضاء من الحريات، بحيث يعبر فيه الناس عن رفضهم للمنكر، أو السعي لتغييره. بالإضافة لأن يرى الخارجون على الإمام – للضرورة- أنهم قادرون على تجنيب الأمة الفتنة وإراقة الدماء، وأن يكونوا قادرين على تغيير الوضع بأقل الخسائر.
"من القواعد المهمة في هذه المسألة: اعتبار المآلات والنظر إلى المصالح المترتبة. فإذا كان المآل على الخروج أعظم من عدمه، كان الأولى القيام به، ولو كان المآل المترتب على الخروج أكثر ضرراً من عدمه، فلا يجوز الخروج"
ويضبط الكلام السابق بقاعدتين فقهيتين شرعيتين هما:
1- اعتبار المآلات والنظر إلى المصالح المترتبة. فإذا كان المآل والمصالح المترتبة على الخروج أعظم من عدمه، كان الأولى القيام به وفق ما سلف ذكره من الضوابط، ولو كان المآل المترتب على الخروج أكثر ضرراً من عدمه، فلا يجوز الخروج بأي حال.
2- القواعد الفقهية التي تتعلق بهذا الأمر مثل: الأمر إذا ضاق اتسع، و يختار أهون الشرين، أو يدفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمها ضررا بارتكاب أخفهما.
فهذه القواعد قد استدل بها قائلوها لمنع الخروج حال وجود فتنة أعظم، وشر أكبر، وهو استدلال صحيح لا خلاف فيه. ويصح أيضاً أن يستدل بها حال كون عدم الخروج يجلب فتنة أكبر من الخروج على الحاكم الظالم، بناء على منطوق هذه القواعد ومفهومها.
معلومات الموضوع
مراجع ومصادر
- فقه الجهاد/ د. يوسف القرضاوي
- رياسة الدولة/ د. محمد رأفت عثمان
- الإصلاح والتغيير السياسي/ د. أنس جراب