يروي أصحاب كتب التاريخ، عن السائب بن الأقرع أنه قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبشره بنصر المسلمين في إحدى المعارك. فسأله عمر رضي الله عنه عن قتلى المسلمين، فعدّ فلاناً وفلاناً من أعيان الناس وأشرافهم، ثم قال لعمر: وآخرون من أفناد الناس لا يعرفهم أمير المؤمنين. فجعل عمر يبكي ويقول: (وما ضرهم ألا يعرفهم أمير المؤمنين! لكن الله يعرفهم، وقد أكرمهم بالشهادة، وما يصنعون بمعرفة عمر؟!).
هي رسالة واضحة المعالم أكد عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه لا يشترط لقبول عملك أن يعرف الناس ما قدمت وما فعلت، بل يكفيك أن يعرفك الله، ويعلم إيمانك وإخلاصك ليعيطك الأجر والثواب من عنده.
والحقيقة أن هذا المبدأ ضروري في وقتنا الحالي، خصوصاً في ظل مواسم الطاعات، والقيام بأعمال البر والإحسان ونصرة الآخرين، إذ بات تعريف الناس بما يقوم كل شخص من عبادة وأعمال فردية ظاهرة مزعجة لدى البعض، حتى أنهم يحرصون على إظهار قيام الليل، وبكائهم أثناء تلاوتهم للقرآن، ودعائهم وصيامهم للنوافل وغيرها.
إن المنهج الذي تبناه عمر بن الخطاب رضي الله في رده على السائب بن الأقرع، ليس منهجاً اجتهاديا، أو رأياً خاصاً به، بل هو منهج قرآني علمنا الله إياه في كثير من آياته، ولنستحضر بعضاً منها:
{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة:249]
{قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} [المائدة:23]
{إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} [الكهف:13]
{وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله} [غافر:28]
{وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} [يس:20]
"إن الدعوة تحتاج إلى أولئك الجنود الأخفياء، الذين لا يسعون لتعريف الناس بطاعاتهم وعباداتهم الشخصية، بل يجعلوها سراً بينهم وبين الله، فهم لا يقومون بها إلا لنيل رضاه ومغفرته وثوابه"
لو تأملنا الآيات السابقة، لوجدنا أن الله أخفى أسماءهم، وبيّن لنا أعمالهم وتضيحاتهم، التي استحقت أن تخلد حتى يوم القيامة، ومع ذلك لم يضر أعمالهم جهلنا بأسمائهم وأشخاصهم.
إن الدعوة تحتاج إلى أولئك الجنود الأخفياء، الذين لا يسعون لتعريف الناس بطاعاتهم وعباداتهم الشخصية، بل يجعلوها سراً بينهم وبين الله، فهم لا يقومون بها إلا لنيل رضاه ومغفرته وثوابه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في تعريفه للإخلاص: (الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله، ولا مجازيا سواه). وقال إبراهيم بن أدهم: (ما صدق الله من أحب الشهرة)، لذا لابد أن يحرص الإنسان على إرضاء الله وحده، ولا يكون دائم الحرص على تعريف الناس بما يقوم به خوفاً من وقوع الرياء والعجب في النفس، مما يبطل ثواب الأعمال ويضيع أجرها.
إن الدعوة التي تقوم على أفراد يحبون الشهرة وتعريف الناس بكل شيء يقومون به، لا يمكن أن تنهض أو تتقدم وتحقق الإنجازات، بل سينزع الله البركة من أعمالها، وستنتشر المشاكل والخلافات الداخلية بين أفرادها، لأن الأمر سيتطور لدى الكثير منهم لحب الظهور والشهرة ومن ثم حب السلطة.
إن على المربين والتربويين واجب مهم خصوصاً في ظل انتشار وسائل التواصل بين الناس، أن يزرعوا في نفوس أبناء الدعوة أهمية الإخلاص، ونيل الأجر من الله، والعمل لتحقيق الصالح العام للدعوة وغيرها، والبعد عن التشهير بطاعتهم وأعمالهم بين الناس، لأن الدعوة تحتاج لتضافر جهود أولئك الجنود الأخفياء، خصوصاً في ظل ما تمر به من مصاعب ومعيقات.
يقول سيد قطب رحمه الله: (نحن في حاجة إلى زعماء بلا مجد وبلا شهرة وبلا بريق، في حاجة إلى جنود مجهولين، فى حاجة إلى فدائيين حقيقيين لا يعنيهم أن تصفق لهم الجماهير، ولا يعنيهم أن تكون أسماءهم على كل لسان وصورهم فى كل مكان).
لكن وفي الوقت نفسه، فإن هناك فرقاً بينّاً بين أن تعرّف الدعوة بإنجازاتها، عبر جهاز إعلامي يقوم ببيان ما أنجزته وقدمته بشكل عام، وبين أن يقوم كل فرد بالكشف عما يقوم به من عبادة وطاعة وعمل، ففي الأولى تختفي الفردية على حساب جماعية العمل، مما يوحد الصف ويجمع الكلمة خلافاً للثانية التي تنمي روح الفردية داخل الصف الدعوي.