دراسة.. أثر الثورات العربية والثورات المضادة في تحولات النظام العربي

الرئيسية » بصائر من واقعنا » دراسة.. أثر الثورات العربية والثورات المضادة في تحولات النظام العربي
ثورات-الربيع-العربي
الثورات العربية والثورات المضادة عليها، أحدثت تغييرات في طبيعة البنية السياسية العربية.

نشر مركز الجزيرة للدراسات، دراسة حول تحولات النظام العربي من خلال الثورات العربية، والثورات المضادة عليها. وما ترتب عليها من نتائج، وما يتوقع لها من سيناريوهات مستقبلية.
وتشير الدراسة التي أعدها الباحث السياسي:طارق عثمان، إلى أنه منذ اندلاع الثورات العربية، قبل أربع سنوات وحتى وقتنا الراهن، فإنه قد حدثت تغييرات جذرية داخل طبيعة النظام العربي، المتمثلة بالموجة الثورية من جهة، والموجة الثورية المضادة من جهة أخرى.

النظام العربي قبل اندلاع الثورات

ويشير الباحث إلى أن النظام الإقليمي العربية قبل اندلاع الثورات الشعبية، كان يتسم بالأمور التالية:

• فيما يتعلق بالخصائص البنيوية لوحدات النظام في المستوى السياسي: كان الملمح الأهم هو غياب الحراك السياسي الساعي للتغيير الديمقراطي؛ ففي مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا ثمة حكم سلطوي ممتد لفترات طويلة يقهر أية حركات سياسية معارضة. وفي الأردن نظام ملكي دستوري يدير معارضته بأمان. وفي دول مجلس التعاون أنظمة ملكية راسخة، فقط ثمة نبتة ديمقراطية ضعيفة تنمو تحت سقف ملكي في الكويت، ولا تمثل أي عبء على نظامها.

• فيما يخص نمط العلاقات والتحالفات بين وحدات الإقليم: كانت علاقات مصر مع دول مجلس التعاون (لو استثنينا قطر بدرجة ما) والأردن تتسم بالتوافق العام والثبات، وهذه الدول جميعها اتسمت علاقتها مع إيران بالجفاء. بينما تتسم علاقة هذه الأخيرة بسوريا بالعمق والمتانة، وكذلك مثَّل العراق ولبنان مناطق نفوذ لها. بينما تركيا في بادئ الأمر كانت متجهة نحو أوروبا، ومن ثم لا تشغلها بجدية طبيعة علاقتها بباقي دول الإقليم، ولكنها قبيل الثورات كانت بصدد تحويل مجرى سياستها الخارجية نحو الشرق (سياسة صفر مشاكل والعمق الاستراتيجي)؛ فحسّنت علاقتها مع سوريا والعراق، وحاولت أن تكون وسيطًا ممتازًا بين إيران والدول الغربية وبين سوريا وإسرائيل، ولكن ساءت علاقتها مع الحليف الأصيل (إسرائيل) منذ أحداث سفينة مرمرة.

• أما عن طبيعة بيئة الإقليم؛ فقد مثّلت دول: مصر، السعودية، إيران، سوريا، تركيا، قلب النظام الإقليمي، بينما مثّلت باقي دول مجلس التعاون، مع لبنان المثقل بانقسامات طائفية وسياسية غير قابلة للحل، والعراق المحتل لتوّه من قِبل الولايات المتحدة، ودول المغرب العربي، دولَ الهامش.

• اتسم النظام بكونه مخترقًا من قبل القوى العظمى تحديدًا الولايات المتحدة، حيث ثمة قسمة ثنائية كلاسيكية لدول النظام الإقليمي، أطلقتها الإدارة الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001: محور الاعتدال؛ وهو يضم: مصر، والأردن، ودول مجلس التعاون الخليجي. ومحور الممانعة ويضم: إيران، وسوريا، وحركة حماس، وحزب الله كفاعلين من غير الدول. وكان محدد هذه القسمة هو مدى التوافق مع استراتيجية واشنطن في المنطقة (خاصة العلاقة مع إسرائيل، والموقف من حركات المقاومة، وما يُسمى الإرهاب.

حدود التحول في النظام الإقليمي العربي

يشير الباحث إلى مجموعة من القضايا تعكس طبيعة التحولات في البنية السياسية العربية، بعد اندلاع الربيع العربي، ومن أبرزها:

1. الديمقراطية: ممارسات ملغومة

حيث كانت الموجة التي انطلقت من تونس في نهايات 2010 ومنها إلى مصر، بمثابة بشارة على نهاية السمت الديكتاتوري لأنظمة الحكم في الإقليم، وبداية حقبة ديمقراطية حقيقة. ولكن مسار الديمقراطية في البلاد التي انتهت فيها هذه الثورات تقريبًا (تونس، مصر، ليبيا، اليمن) لم يكن كما كان يؤمَّل له؛ ويمكن اختزال أسباب التعثر الديمقراطي فيما بعد الثورات في الآتي:

• سطوة الأيديولوجيا: فانخرطت القوى الثورية بعد أول إشارة على سقوط الأنظمة الديكتاتورية، في صراع أيديولوجي مرير فيما بينها، أطّرته الثنائية: إسلامي/علماني؛ مما زاد من تفككها وهي المفككة أصلًا، وأنتج حالة من الاستقطاب الحاد في تلك المجتمعات. وكان هذا جليًا في الحالة المصرية، وبدرجة أقل في تونس.

• الدول العميقة: ربما كانت السمة الأوضح لهذه الثورات، أنها لم تُنجز مهمتها بمهارة؛ هي لم تقضِ تمامًا على الأنظمة السياسية الحاكمة، لقد تركت خلفها النظام القديم ممتدًا بكل عمق في أجهزة الدولة الإدارية المختلفة، والتي بدورهات عملت على عرقلة مسار الديمقراطية وتلغيمه ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.

• المسارات العنيفة: ففي الحالة الليبية انتقلت الثورة من حدث سلمي إلى حرب حقيقية؛ لذا فإن انتشار السلاح في أيدي الجميع، وتحوُّل الفاعلين إلى ميليشيات مسلحة، مع وجود جماعات إسلامية عنيفة، وغياب أية مؤسسات للدولة، يحول إلى الآن دون إتمام عملية ديمقراطية حقيقية.

ويخلص الباحث في هذا الصدد وبعد عامين تقريباً من التيه الديمقراطي، إلى أنه لم تصمد أول محاولة ديمقراطية في مصر لأكثر من عام؛ إذ تم الانقلاب عليها، وليبيا غارقة في صراعات عسكرية وسياسية مريرة، بينما اليمن في حالة فوضى بلا معالم. وحدها تونس بالكاد قد استطاعت أن تنتقل بضع خطوات في المسار الديمقراطي؛ قد أنجزت للتوّ دستورًا جديدًا، ويحاول الفرقاء السياسيين أن يديروا خلافاتهم الأيديولوجية بدرجة عالية من التوافق.

2. السياسات والتحالفات: رهان الإسلام السياسي

حيث غيرت الموجة الثورية طبيعة السياسة الخارجية والتحالفات بين دول الإقليم، والتي تمثلت بما يأتي:

أولا: دول الخليج: قطر تغرد خارج السرب:

استطاعت دول الخليج (مع الأردن) أن تنجو من موجة الثورات وبقيت في منأى عنها، وذلك بغض النظر عن المحاولة الثورية ذات الصبغة الطائفية التي تمت السيطرة عليها مبكرًا في البحرين، إلا أن ذلك لم يحل دون خوفها الشديد من انتقال الحراك الثوري إليها يومًا ما. و انقسمت دول الخليج إلى فريقين: قطر في ناحية، وباقي دول مجلس التعاون، وعلى رأسهم المملكة السعودية والإمارات المتحدة في ناحية مقابلة.

"تعود سلبية موقف كل من السعودية والإمارات تجاه الربيع العربي إلى مناهضتها لفكرة التغيير أصلاً، بوصفها ملكيات راسخة تتحسس من الألفاظ التي تتضمن معاني الإصلاح والتغيير والثورة، بالإضافة إلى علاقاتها شبه العدائية مع الإخوان المسلمين"

كان موقف السعودية والإمارات سلبيًا جدًا تجاه دول الربيع العربي، وذلك يرجع إلى محددين متعالقين بدرجة كبيرة، الأول: يتعلق بمناهضتها لفكرة التغيير أصلًا، والتغيير الثوري من باب أولى، وذلك بوصفها مَلَكيات راسخة تتحسس من الألفاظ التي تتضمن معاني الإصلاح، والتغيير، والثورة. أما الثاني؛ فينصرف إلى علاقتها شبه العدائية بحركات الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون تحديدًا)، والتي بدا ومبكرًا أنها ستتولى مقاليد السلطة في كل الدول التي مرت منها عاصفة الربيع العربي.

بينما جاء موقف قطر أكثر انفتاحًا على الربيع العربي، وغردت خارج السرب الخليجي تمامًا. وتعاملت قطر بوصفها راعيًا للثورات العربية دبلوماسيًا وإعلاميًا.

وبحسب رأي الباحث، فقد انعكست هذه المواقف على العلاقات بين وحدات الإقليم كالتالي:
بالنسبة للعلاقات الخليجية-الخليجية: ففيما يخص العلاقة الخليجية مع قطر، فموقفها الإيجابي من الربيع العربي ، قد أثار امتعاض باقي دول الخليج بشدة، خاصة المملكة العربية السعودية. حيث ساءت العلاقة لحد ما، وإن لم يترتب على ذلك سياسات عدائية متبادلة، بين قطر وباقي دول مجلس التعاون.
بالنسبة للعلاقات الخليجية مع مصر: فيما يخص السعودية والإمارات فقد اتسمت علاقتهما بمصر وقت الثورةبحالة من البرود والتوجس، وعلى النقيض تمامًا، تحسنت علاقات قطر بالإدارة الإخوانية الجديدة لمصر، وتمت زيارات متوالية قطرية، مشفوعة بهبات مالية، لإعانة الاقتصاد المصري الراكد
بالنسبة للعلاقات مع سوريا: بالرغم من كون الموقف من الثورة السورية يعتبر محل إجماع بين دول الخليج قاطبة، فإن ذلك لم يمنع من وجود اختلافات سعودية-قطرية في تفاصيل هذا الموقف العام، فثمة نقطتان هنا:
الأولى: تتعلق بدوافع كل منهما لدعم الثورة السورية: فالسعودية لا تقف ضد الأسد دعمًا للتغيير ودفاعًا عن حرية الشعب السوري، وإنما دافعها الوحيد هو مناكفة إيران منافسها الجيوستراتيجي الأهم في المنطقة. بينما الدافع القطري فلا يمكن الجزم بأنه يتمحور حول القلق من النفوذ الإيراني في المنطقة، وإنما يتوافق هذا الموقف مع الإطار العام لسياستها الخارجية: دعم حريات الشعوب وتبني قضاياها.
أما النقطة الثانية؛ فتتعلق بالأطراف التي تدعمها كل من السعودية وقطر داخل المعارضة السورية: كالعادة قطر تراهن على جماعة الإخوان، بوصفها الجواد الرابح في كل حالات الربيع العربي، مع دعم بعض الجماعات السلفية الأكثر اعتدالاً، بينما تريد السعودية أن تنأى بنفسها تمامًا عن أية كيانات إسلامية في المعارضة، وتُؤْثِر عليها دعم كيانات أكثر علمانية.

ثانياً: تركيا: ضياع "صفر مشاكل"
تركيا بوصفها القائد الإقليمي السني، المتبني لمظالم الشعوب العربية، هذه هي الصورة الذهنية التي انطلقت تركيا منها في تفاعلها الإيجابي مع الربيع العربي، ودعمها للثورات. هذه السياسة التركية الجديدة قد كلّفتها ضياع استراتيجيتها السابقة على الربيع العربي، والمتمثلة في تصفير مشاكلها مع كل دول الإقليم قاطبة. لقد سارعت تركيا بالقطيعة مع أنظمة الحكم التي ثارت عليها شعوبها، وطلبت منها الرحيل بهدوء.

ثالثا: إيران: الورطة السورية
لم تغير الثورات العربية كثيرًا في طبيعة علاقات طهران مع دول الإقليم؛ إذ حاولت إيران بداية أن تخرّج الثورات العربية بوصفها محض امتداد للثورة الإسلامية في 1979، ولكن لم يجد هذا التخريج رواجًا كافيًا؛ لذا قدمت خطابًا إيجابيًا عامًا نحو الثورات، حتى وصلت الموجة لدمشق، عندها تبدلت الحال تمامًا، فدعمت نظام الأسد ماليًا، وسياسيًا، وعسكريًا لكونها قد استثمرت طويلاً في سوريا، إنها الامتداد الجيوستراتيجي لها في الإقليم، وهي الجسر الواصل لذراعها في لبنان، أعني: حزب الله.

3. الفاعل الخارجي: أعراض الانسحاب الأمريكي
كان محدد تفاعل الولايات المتحدة مع الثورات العربية، هو تجنب الاحتكاك المباشر، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، فلم يكن بيدها الكثير لتتدخل به في واقع الأمر؛ ومن ثم انتهجت مقاربة غاية في البراغماتية، مع الدول التي اجتاحتها الموجة الثورية فتخلّت عن نظامي بن علي ومبارك بكل بساطة وقبلت بالإدارة العسكرية لمصر طوال المرحلة الانتقالية، ثم تعاملت بإيجابية مع الإدارة الإخوانية لمصر الجديدة. وفي اليمن ومن خلف حلفائها الخليجيين تم احتواء الثورة تمامًا من خلال صفقة ما مع نظام صالح. أما في ليبيا فتصدر الناتو لمهمة إسقاط القذافي، ووقفت وراءه باحتشام. في سوريا كان خيارها الاستراتيجي ولا يزال هو عدم التورط هناك مرة ثانية و قاومت واشنطن كل الضغوط التي تُمارَس عليها للتحرك عسكريًا ضد الأسد، بعد مرور ثلاث سنوات من ذبحه لشعبه و اكتفت واشنطن بالدعوات المكرورة وبلا جدوى عن حل سياسي للأزمة، وبمحاولة مد الجماعات المعارضة البعيدة عن التنظيمات الجهادية بأسلحة (خفيفة طبعًا).

4. الفاعلون من غير الدول: نصر الإسلام السياسي

" اعتُبر الربيع العربي ضربة قاصمة لاستراتيجيات التنظيمات الجهادية؛ فها هي الشعوب العربية قد حررت نفسها من الطغيان، دونما أن تفكر في رفع أي سلاح، لذا فقد كانت حركات الإسلام السياسي، السلمية والمنخرطة في العمل السياسي، هي الأوفر حظًا في أن تحتل مكانة متقدمة في المشهد السياسي للربيع العربي"

بادئ الرأي، اعتُبر الربيع العربي ضربة قاصمة لاستراتيجيات التنظيمات الجهادية؛ فها هي الشعوب العربية قد حررت نفسها من الطغيان، دونما أن تفكر في رفع أي سلاح، لقد تم في عجَل إعلان نصر السلمية وتأبين أية استراتيجيات تغيير عنيفة. وعليه، فقد كانت حركات الإسلام السياسي، السلمية والمنخرطة في العمل السياسي، هي الأوفر حظًا في أن تحتل مكانة متقدمة في المشهد السياسي للربيع العربي.

ولكن على الأرض، أتاحت حالة الفوضى والانفلات الأمني في المراحل الانتقالية، سهولة تحرك التنظيمات الجهادية، والمقدرة على نقل السلاح بأمان. وعليه، فقد تشكّلت في كل من مصر وتونس وليبيا جماعات تابعة -بدرجة أو بأخرى- للقاعدة. أما في ليبيا ونظرًا لطبيعة ثورتها المسلحة ومنذ البدء، فقد انخرط التنظيم الجهادي مبكرًا في القتال ضد القذافي، ومن آنها وهو يحظى بنفوذ كبير، بالطبع مع باقي الفرقاء المسلحين مثله بالضرورة، ففي ليبيا ثمة ميليشيات أكثر منها فواعل سياسية.

أما في سوريا فالوضع أكثر تعقيدًا؛ فلقد مثّلت الساحة السورية ملاذًا للتنظيمات الجهادية، ثمة جبهة النصرة التابعة للقاعدة، والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وغيرها من التنظيمات، التي تقاتل ضد الأسد.

بالنسبة لحزب الله، فقد تورط تمامًا في الثورة السورية، وهو يقاتل باستماته مع قوات الأسد، فلو ضاع الأسد سينقطع الحبل السري الذي يصله بإيران، سيضيع المال والسلاح إذن. لم يعد الحزب قلقًا حول صورته كحركة مقاومة وتحرر، من المفترض أن تقف في جانب الشعب لا في جانب الطاغية، لقد انعكس هذا الانخراط سلبًا على البيئة اللبنانية السياسية والمجتمعية القلقة أصلاً، وانتقل الاقتتال للداخل اللبناني.

 الثورة المضادة: السير حثيثًا إلى الوراء!

برأي الباحث، فإن الثورة المضادة بدأت مع الثورة، بحيث يتعلق الأمر بمدى قضاء الثورة على النظام القديم سياسياً واجتماعياً، وتحديد وجهتها بوضوح، ومدى تمكّنها من إرساء نظام سياسي واجتماعي بديل. وهما ما افتدقتاه الثورات العربية، ومن ثم كانت فرص الثورة المضادة قوية.

1. الديمقراطية: لقد انتهى الحفل

ربما كان الأكثر رجاءً في الربيع العربي، هو أن تحل الديمقراطية محل النظم الديكتاتورية الراحلة.إلا أن الثورة المضادة قد بددت الأمل تقريبًا:
في البدء، علينا أن نستثني تونس، ربما كانت هي الحالة الاستثناء للربيع العربي برمته؛ فثمة مسار ديمقراطي يسير وإن كان ببطء، وهناك الكثير من العقبات والاختلافات، ولكن الفرقاء السياسيين يدبرون أمورهم بدرجة أو بأخرى. وربما كان ضعف الثورة المضادة، وعدم تغول مؤسسات النظام القديم في المشهد السياسي ما بعد الثورة هو الذي مكن تونس من البقاء على هذه الحالة.

أما باقي الحالات فهي لا تحض على التفاؤل أبدًا، خصوصاً عن مصر والتي استطاعت فيها الثورة المضادة أن تنتصر نصرًا مؤزرًا، فتم سحق الثورة تمامًا هذه المرة؛ و أجهزت الثورة المضادة في مصر على كل القوى الثورية، سواء من الإخوان أو من غيرهم، وعادت الدولة للعمل وفق الوصفة الديكتاتورية للحكم: رفع لافتة "محاربة الإرهاب" الأثيرة والفعّالة، والاعتقال، والأحكام القضائية القاسية والمسيسة، والسيطرة التامة على الوسائل الإعلامية، فلم يعد ثمة مكان للمعارضة إذن.

أما فيما يتعلق بسوريا؛ فبالرغم من كونها ساحة حرب حقيقية، إلا أن وغى المعارك لم يمنع الأسد من أن يعقد انتخابات رئاسية ويفوز بها عن جدارة في مشهد سوريالي في واقع الأمر.

"جاءت الثورة المضادة لتقضي على كل أمل في إبقاء الديمقراطية على قيد الحياة، بالتحديد في مصر، حيث انتصرت الثورة المضادة تماماً، لذا لم تغير الثورة كثيراً من الخصائص البنيوية السياسية للإقليم من ناحية سمت الحكم، فما زالت الديمقراطية غائبة بوجه عام باستثناء تونس"

كما أن الوضع في ليبيا لا يبشر هو الآخر، لا تزال المعارك طاحنة في بنغازي بين قوات اللواء حفتر والميليشيات الإسلامية، وهناك معارك لا تقل قسوة في المستوى السياسي بين أعضاء المؤتمر العام (البرلمان) المختلفين أيديولوجيًا.

كمحصلة، مسار الديمقراطية متعسر وملغوم منذ بدء الربيع العربي، ولكن الثورة المضادة قد جاءت لتقضي تقريبًا على كل أمل في إبقاء الديمقراطية على قيد الحياة، بالتحديد نتحدث عن حالة مصر؛ حيث انتصرت الثورة المضادة تمامًا، أما في باقي الحالات (باستثناء تونس) فإن الوضع لم يزل على ما هو عليه من السوء. لم تغير الثورة كثيرًا إذن في الخصائص البنيوية السياسية للإقليم، من ناحية سمت الحكم أقصد، فلا تزال الديمقراطية غائبة بوجه عام، ثم جاءت الثورة المضادة لتعيد ترسيخ الديكتاتورية (في مصر تحديدًا.

2. التحالفات السياسية: من بقي مع الثورة؟

أولاً: دول الخليج: نهاية الكابوس الثوري
بوصول الثورة المضادة في مصر للحكم، انتهى الكابوس الثوري بالنسبة لكل من السعودية والإمارات، لقد رحل الإخوان المسلمون، وجاء نظام ديكتاتوري يليق بهم. وتحسنت العلاقات لأبعد الحدود بين كل من مصر والسعودية والإمارات، والأموال تتدفق بسخاء على الجنرال السيسي.

ولأول مرة منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي إبان الحرب العراقية-الإيرانية، يصل الخلاف بين دول المجلس للحد الذي تسحب فيه السعودية والإمارات سفراءها من الدوحة. وقطر لم تتوانَ عن فتح ذراعيها للإخوان الفارين من جحيم الانقلاب في مصر، ولا تزال محطة الجزيرة تشن حملة لا هوادة فيها على الثورة المضادة في مصر. أما الكويت فتحاول أن تلعب دور الوسيط العاقل بين الفرقاء في المجلس. أما فيما يتعلق بعلاقة دول الخليج بإيران، فيبدو أن طول أمد الصراع في سوريا، مع الإنجاز الذي تحققه إدارة روحاني في المسألة النووية والاتفاق الوشيك مع الغرب، قد حثّ دول الخليج على كسر الجليد ولو قليلاً الذي بينها وبين طهران.

ثانيا: تركيا وإيران: لقد علقنا في الفخ السوري
تدهورت علاقة تركيا مع مصر تمامًا، فلهجة تركيا مقارنة بقطر غاية في العدائية تجاه حكومة الثورة المضادة. لقد خسرت تركيا القاهرة فيما يبدو. أما إيران فالأوضاع لم تختلف كثيرًا، ولكنها مرشحة للانحدار بسبب تحسن العلاقات المصرية-السعودية. وتبقى الثورة السورية، الفخ الذي علِق فيه كل من أنقرة وطهران، وإن اختلفت جبهة كل منها، كلتاهما ستخسران في واقع الأمر، طالما رحى المعارك في سوريا لا يلوح في الأفق أنها ستتوقف يومًا ما.

ثالثاً: الفاعلون من غير الدول: بزوغ داعش
فيما يخص حزب الله، فالوضع على ما هو عليه؛ إذ لا يزال غارقًا في صراع مرير بجانب الأسد ضد الثورة. أما حماس فبحسب رأي الباحث قد خسرت كل شيء تقريبًا بعد الانقلاب في مصر؛ فقد عادت الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل وصول الإخوان المسلمين للحكم، وهي قد خسرت تقريبًا علاقتها بطهران وسوريا، وهو ما دفعها –بحسب رأيه- لتحريك مياه الصلح الراكدة بينها وبين حركة فتح.

أما بخصوص الحركات الجهادية، فهي في حالة صحوة حقيقية؛ فبانتصار الثورة المضادة في مصر، لم يعد أحد يجرؤ على مدح المسار الديمقراطي، وذمّ أيديولوجية القاعدة العنيفة؛ فها هو المسار السياسي السلمي لم يؤتِ أي أُكُل، وثمة نوبات "كفر" بالديمقراطية انتشرت بين شباب الحركات الإسلامية، حيث ازداد بريق السلاح توهجًا في الأعين بعد التنكيل بهم في مصر.

" مثلت الثورة المضادة صحوة نظرية وعملية لأيديولوجيا القاعدة العنيفة، بعد ما كادت تخبو أو تموت بفضل الثورات العربية، وثمة نوبات كفر بالديمقراطية انتشرت بين شباب الحركة الإسلامية"

بينما في سوريا والعراق، فقد بزغ نجم الدولة الإسلامية في العراق والشام- داعش التي أعلنت قيام الخلافة ليصير اسمها الدولة الإسلامية؛ أما في سوريا فثمة جولات من الصراع الضاري بينها وبين باقي التنظيمات الإسلامية المقاتلة خاصة جبهة النصرة، التابعة لتنظيم القاعدة. بينما في العراق، فقد استغلت حالة الغضب السني من سياسات المالكي الطائفية، ثم في أوائل شهر يونيو/حزيران 2014 استطاعت بطريقة مريبة أن تسيطر على ثاني أكبر مدن العراق ومعقل السنة، مدينة الموصل وغيرها من المدن، بعدما فرّ منها الجيش العراقي في مشهد مذلّ.

خلاصة: إلى أين يسير الإقليم؟

ويختم الباحث الدراسة، ببعض السيناريوهات المحتملة للمنطقة:
• من المرجح أن لا تنخرط مصر في أية صراعات إقليمية، سوف تظل علاقتها راسخة بدول الخليج، وبعيدًا عن إيران وتركيا. سيحكم الجنرال قبضته على الوضع الداخلي، وسيكون من العسير إشعال فتيل ثورة أخرى في مصر، على المدى القريب أو المتوسط.
• ستظل الصراعات السياسية والعسكرية في ليبيا مستمرة لفترة على الأرجح، ويُستبعد أن تتدخل دول الجوار لحسم النزاعات بين الفرقاء الليبيين، إلا إذا امتد الصراع وتعمق مزيدًا، ربما يحدث تدخل دولي بغطاء إقليمي في ليبيا مرة ثانية وسيكون أكثر محدودية بالطبع.
• سيظل اليمن مشغولاً بحرب القاعدة والحوثيين لفترة على الأرجح، ولا يُستبعد أن تحدث اضطرابات بسبب المشاكل الاقتصادية.
• من المرجح أن تسير تونس ببطء وهدوء في المسار الديمقراطي، وتبقى مشكلة التنظيمات الجهادية عقبة كبيرة أمامها.
• ستتحسن العلاقة تدريجيًا بين قطر وباقي دول مجلس التعاون الخليجي، على الأرجح، في ظل سلطة أمير قطر الجديد.
• بات من العسير جدًا أن تصل موجة الثورات إلى دول الخليج، خاصة بعدما قادت كل من السعودية والإمارات الثورة المضادة في الإقليم. فقط ربما يكون ثمة توترات في نقل الخلافة في السعودية والكويت. ولا يرجح أن ينشط الحراك في البحرين بطريقة جذرية على المدى القريب.
• أما عن الوضع في سوريا فهو منفتح على كل الاحتمالات، وستكون أهم محددات مساره هي الآتية:
1. هل ستتدخل أميركا عسكريًا في سوريا؟ هل ستكتفي بالدعم العسكري للمقاومة؟ وما درجة هذا الدعم؟
2. هل ستحافظ طهران وموسكو على دعمهما للأسد؟
3. إلى أي مدى سيحصل اتفاق غربي-إيراني حول الملف النووي؟ وهل سيمتد الاتفاق للمسألة السورية؟
4. هل سيتغير وضه الفصائل المقاتلة من حيث درجة التنسيق والتسليح؟
وفي ضوء هذه المحددات، لا يُتصور أن يرحل الأسد مبكرًا، فقط يرجح فقدانه السيطرة على بعض المناطق، ومن ثم لا يُستبعد سيناريو تقسيم سوريا.
• فيما يخص جماعة الإخوان المسلمين، فلا يُرجح أن يُفسح لها نظام السيسي مكانًا ملموسًا في الحياة السياسية، ويرجح أن تقل حدة معارضة الجماعة للنظام، مكتفية بمحاولة الحفاظ على كيان الجماعة من التفكك.
• فيما يخص حماس فمن المرجح أن تسعى لتحسين علاقتها مع طهران، والوصول لعلاقة مقبولة مع القاهرة.
• فيما يخص الدولة الإسلامية (أو داعش) فسيتوقف مصير تمددها في العراق على مدى التغيرات التي ستطرأ على طبيعة السياسات العراقية (خاصة السياسات تجاه السنة) بعد رحيل المالكي عن السلطة ومجيء حيدر العبادي. وعلى أثر العمليات الأميركية الجوية على قدرتها العسكرية والقتالية.

تحولات النظام الإقليمي

معلومات الموضوع

مراجع ومصادر

  • مركز الجزيرة للدراسات
اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال

شاهد أيضاً

من عوامل ثبات أهل غزة

قال تعالى: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم …