مثَّل ربيع الثورات العربية مشكلةً كبيرة لقوى عديدة على المستوى الإقليمي والدولية، فيما يتعلق بالانتصارات الكبيرة التي حققتها "الإسلام السياسي"، بمختلف تياراته وقواه، التي تحمل بين جنباتها مشروعات إصلاحية، تسعى من خلالها إلى استعادة خيرية الأمة وأستاذيتها للعالم، مما استتبع من هذه القوى التنادي فيما بينها من أجل العمل على مواجهة تلك المشكلة، مشعلة بذلك نيران حرب إقليمية وعالمية جديدة، سوف يكتبها التاريخ بالإنصاف اللازم بعد رحيل أطرافها، كما يقول معلمو العمران وعلماء التاريخ.
كانت المخاطر التي طرحها مشروع الثورات الشعبية العربية، مُحِيقة بالفعل بمصالح شديدة الحيوية لأطراف عديدة في المنطقة وخارجها ، فهي من جهة- أي الثورات العربية- تعني استعادة الأمة لإرادتها الشعبية، وبالتالي امتلاكها لقرارها، ومن ثَمَّ انطلاقها لأجل تحقيق استقلالها الحقيقي، وما يتتبعه ذلك في صدد تحقيق الوحدة فيما بينها، واستعادة حقيقة الأمة، ككيان موحد، قوي وحضاري، يقود العالم نحو النور، وتحريره من عبودية البشر والمادة، إلى عبودية الله وحده.
وبطبيعة الحال؛ فإن هذه الوضعية لا يقبل بها الغرب ومن عاونه من قوى الفساد والاستبداد الحاكمة، بين ظهرانيي بلدان الوطن العربي والإسلامي، أو الأمم والكيانات التي لها مشروعات سياسية إقليمية خاصة بعصبية أو دين، تصطدم مع المشروع الإسلامي الصحوي بمفرداته السابقة، مثل المشروع الصهيوني، الذي قسَّم الأمة جيوسياسيًّا، وقطع تواصلها الجغرافي، بكل ما في ذلك من تبعات، والمشروع الإيراني، الذي استعاد بعد ثورة الملالي في العام 1979م، ثنائية فارسي/ شيعي، التي بدأتها الدولة الصفوية قبل قرون طويلة، وكان فيها شقاق الأمة الأكبر، فكريًّا وسياسيًّا وعقائديًّا!
ومن بين المصالح القريبة التي يمسها ذلك بالنسبة لقوى الاستعمار والاستكبار العالمي، قضية أمن "إسرائيل"، ومصالح الغرب في مصادر الطاقة في المشرق العربي والإسلامي، والتي تفسر في جانب منها، كثيرًا من سلوك الغرب في الأزمة في العراق؛ حيث تدخل الغرب بشكل "فوري"، في ملف ما يُعرف بـ"تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية"، في العراق، وتجاوزه في سوريا؛ لأن العراق يرقد على بحيرة من النفط، من المرجح أن تجعله صاحب أكبر احتياطي للطاقة في العالم، بينما سوريا لا تملك ذلك.
"داعش" وضرورة الاستمرار:
هناك بطبيعة الحال عوامل أخرى وراء التدخل الغربي في ملف "داعش" في العراق، وعدم التدخل بذات الدرجة من الحسم في سوريا؛ حيث "داعش"- التي على ظهورها الكثير من علامات الاستفهام- تسيطر على نصف الأراضي السورية تقريبًا، وتقوم بذات ما تقوم به من ممارسات إجرامية بحق المدنيين الأبرياء الآمنين، بما في ذلك العرب السُّنَّة ممن لم يقبلوا بوجودها بين ظهرانيهم، وليس الأقليات الأخرى غير المسلمة فحسب.
" إن وجود "داعش" في سوريا يحقق الكثير من المستهدفات، التي تترافق مع مستهدفات بقاء النظام السوري ذاته؛ لكي تصنع جانبًا من المخطط الذي يُحاك للأمة في أقبية الأجهزة والحكومات المعادية"
إن وجود "داعش" في سوريا يحقق الكثير من المستهدفات، التي تترافق مع مستهدفات بقاء النظام السوري ذاته؛ لكي تصنع جانبًا من المخطط الذي يُحاك للأمة في أقبية الأجهزة والحكومات المعادية.
فبقاء الأزمة السورية مشتعلة من دون إسقاط النظام السوري الحالي؛ يضمن أولاً بقاء نظام ظل يحمي حدود الكيان الصهيوني الشمالية، طيلة أربعين عامًا، فيما يستمر في حرب ضد شعبه تستنزف قدراته وقدرات حلفائه في المنطقة، وعلى رأسهم إيران وحزب الله اللبناني، وذلك ضمن استراتيجية غربية أوسع لمحاصرة المشروع الإيراني في المنطقة.
ظهور "داعش" في سوريا، وتمكينها بهذه الصورة يحقق الجانب الآخر من المستهدف الأمريكي الغربي من وراء استمرار الأزمة في سوريا؛ حيث إنه يخلق ما اصطلح على تسميته في إعلام اليوم بـ"بؤرة جهادية" تستقطب جهاديي العالم، وبالتالي معالجة ملف من أهم ملفات الأمن القومي للأمريكيين والأوروبيين.
كذلك؛ فإنه من بين أهم استراتيجيات أعداء الأمة، ما تطلق عليه دوائر أجهزة التقييم والمعلومات باستراتيجية "الجهاد بالجهاد" أو "الإرهاب بالإرهاب"، ويعني ذلك خلق نموذج "جهادي" مثل "داعش"، يحقق تقدمًا كبيرًا وسريعًا على الأرض، يكون جاذبًا للشباب المتحمس لدينه، ولكنه لا يملك المعرفة الفقية والتنوير الفكري اللازمَيْن لحسم بوصلة حركته في الاتجاه الصحيح.
وتدعم القوى التي تقف خلف هذا المخطط، هذه الرسالة، ببذل كل ما يمكن من أجل تعطيل المشروع الذي يحمله الإخوان المسلمين والتيار الصحوي، سواء من خلال فعل ذاتي، أو من خلال دعم تدافع الباطل من جانب الأنظمة الحاكمة والقوى السياسية والمجتمعية التقليدية التي أطاح الربيع العربي بعروشها، وهدد مصالحها.
وفي ظل المظالم التي تقع في حق التيارات الوسطية التي تستلهم النموذج النبوي القائم على التربية والتدرج، في عملية التغيير والإصلاح، وتتبنى السلمية شعارًا لها؛ فإن ذلك يعني استقطاب عشرات الآلاف من الشباب المحبط بسبب فشل ثوراته، إلى سياقات "داعش" ومن نحا نحوها.
ويفسر ذلك في كثير من الأحوال انتشار ظواهر هدامة مثل الإرهاب والعنف، والفوضى وعدم الاستقرار الأهلي، في عدد كبير من بلدان العالم العربي والإسلامي، وخصوصًا التي تمتلك الأرضية الطائفية أو المذهبية أو العرقية والقومية اللازمة لاندلاع حرب أهلية فيها، أو على الأقل تدخل في آتون الفوضى وعدم الاستقرار الذي يعطل خطط التنمية والنهضة فيها.
مشروع الإسلام الصحوي وضرورة إفشاله:
منذ قرون طويلة، اجتمعت قوى عالمية عديدة على هدف واحد، وهو إسقاط دولة الخلافة الإسلامية الجامعة، وعندما تم لها هذا الهدف، بكل ما يتضمنه من صنائع وغايات، مثل شرذمة صف المسلمين، والسيطرة على ثروات الأمة، انتقلت إلى هدف آخر لا يقل أهمية عنه، وهو منع أية قوى ترمي إلى استعادة خيرية الأمة وسبقها الحضاري، من الظهور أو التحرك لتحقيق ذلك.
"كان الإسلام الحركي منذ بدايات ظهوره، وتأسيسه بشكل منظم على يد الإمام حسن البنا، موضع هجوم من جانب ثالوث قوى الشر، الاستعمار العالمي، وأنظمة الفساد والاستبداد، والحركة الصهيونية"
لذلك كان الإسلام الحركي، منذ ظهوره على يد الأئمة المؤسسين الأوائل، مثل جمال الدين الأفغاني ورشيد رضا، وحسن البنا الذي أسس لأول كيان منظم في هذا الإطار، موضع هجوم من جانب ثالوث قوى الشر، الاستعمار العالمي، وأنظمة الفساد والاستبداد، والحركة الصهيونية.
ولو تأملنا في الصيرورات التي تلت ظهور جماعة الإخوان المسلمين على وجه الخصوص؛ لاتضح لنا بعضًا من جوانب هذه الحرب العالمية، والتي كانت طلقتها الأولى عند وضوح خطورة مشروع الإخوان المسلمين على خطط الاستعمار العالمي في العالم العربي والمشرق الإسلامي، بعد تشكيل كتائب الإخوان المسلمين التي حاربت الاستعمار البريطاني في السويس، وخاضت حربًا في فلسطين ضد العصابات الصهيونية، في الأربعينيات الماضية.
ومن قبل ذلك؛ عندما بدأ حسن البنا في جولاته في البلدان العربية والإسلامية الوليدة، للدعوة إلى استراتيجية شاملة لاستعادة دولة الخلافة الإسلامية، من خلال إصلاح الداخل أولاً، ثم تحقيق الوحدة بين البلدان التي تصل مجتمعاتها، ومن ثَمَّ قياداتها وطليعتها السياسية والاجتماعية، إلى مستوى الإيمان الكامل بالفكرة، والتضحية في سبيلها، مهما كان الثمن المدفوع.
فاغتيل حسن البنا، وبدأ وكلاء الاستعمار العالمي من حكومات وأنظمة في دولنا العربية والإسلامية، في محاربة الإخوان المسلمين، والسعي للقضاء على الفكرة والتنظيم، وكل ما اتصل، بمختلف الوسائل، السياسية والأمنية والإعلامية الدعائية.
وعندما انتهت الحرب الباردة، لم يخف الغرب أبدًا أن هدفه الراهن هو الإسلام الصاعد والصحوة الإسلامية التي كانت قد بدأت تحصد ما زرعته على مدار عقود، فبشَّر الكاتب والأكاديمي الأمريكي، صموئيل هنتنجون، في كتابه الأشهر "نهاية التاريخ"، بحرب كونية جديدة، يكون فيها العدو الأساسي، هو الإسلام، أو العدو الأخضر، بعد انتهاء الحرب ضد الشيوعية، أو العدو الأحمر، بانتصار الغرب، بتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وانهيار حلف "وارسو"، وتحلل الكتلة الشرقية.
ويفسر ذلك الكثير من الظواهر والحوادث الكبار التي وقعت في العالم العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة، مثل الاستماتة في تقسيم السودان، وحصار قطاع غزة، ثم التنادي لحصار وضرب مشروع الإسلام الصحوي بعد الربيع العربي.
وفي الأخير؛ فإن هذه الحرب التي تتم بمختلف الوسائل، وعلى طول العالم وعرضه، تعني أن المشروع يسير في الاتجاه الصحيح، ومن ثَمَّ؛ فإنه من الأهمية بمكان الثبات على المنهج، واستكمال المسار، من أحجل الانطلاق نحو استعادة وجود الأمة في ساحات الحضارة الإنسانية.