الدين كركيزة أساسية في حضارة الإسلام وسنن العمران (2-2)

الرئيسية » بصائر الفكر » الدين كركيزة أساسية في حضارة الإسلام وسنن العمران (2-2)
الاسلام-السياسي

استكمالاً لما تناولناه في الجزء الأول من المقال، حول الدين كركيزة أساسية في حضارة الإسلام؛ فإننا نجد ذلك قانونًا راسخًا شديد الوضوح؛ لو تتبعنا تاريخ الحضارة الإسلامية، فهي كانت في قمة أمم العالم، وعلمت الآخرين، وقادتهم من ظلمات الجهل المادي والعقيدي، إلى نور العلم والمعرفة بمختلف ألوانها وأشكالها، مع الأخذ بسنن التراكم الحضاري، من خلال الارتكاز على المُنتج الفكري والعلمي للأمم السابقة، بما في ذلك الأمم التي كانت على غير الديانات السماوية، مثل الحضارة اليونانية والفارسية، من خلال أدوات الترجمة والنقل وغير ذلك.

ويعود ذلك إلى المكوِّن القيمي الذي يحتويه الإسلام كدين شامل، أنزله الله تعالى صالحًا لكل زمان ومكان.

فهذ المكوِّن القيمي، يتضمن مختلف عوامل نهوض الحضارات، وعلى رأسها المرتكزات الأخلاقية الأساسية التي تنهض بها الأمم والمجتمعات، وعلى رأسها العدل والعلم والإعلاء من شأن العقل وقيمة الحرية والمساواة، وإفساح المجال أمام شراكة مجتمعية حقيقية في البناء، ثم جني الثمرة بعد ذلك، أو ما يطلق عليه علماء السياسة، العدالة التوزيعية في الثروة والسلطة، ضمن باقي قواعد الحكم الرشيد، التي أكد عليها الإسلام، مثل الشفافية والمسئولية والمحاسبة، واحترام حقوق الإنسان، والإعلاء من قيمة القانون والعدالة الاجتماعية.

وفي تفصيل ابن خلدون لتاريخ الدولة الإسلامية كنموذج لشرح المراحل والأطوار التي حددها للدولة؛ سوف نجد دائمًا أن مراحل الصعود كانت مرتبطة بمدى تمسك الأمة بتعاليم الدين الخالص، وعندما تكون للدنيا الغلبة؛ يكون التراجُع والدوال، وهو أمر جليٌّ شديد الوضوح في محطات دولة النبوة والخلافة الراشدة، والدولة الأموية من بعدها، ثم دولة الخلافة العباسية.

فطور التأسيس للدولة والحضارة الإسلامية بشكل عام، عند ابن خلدون، هو عهد الرسول الكريم "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، وعهد الخلفاء الراشدين الأربعة المهديين من بعده.

وفي هذه المرحلة، قضى الإسلام على شكل العمران البشري القائم في مرحلة الجاهلية، والذي كان قائمًا على العصبية القبلية، وأسس محلها قواعد الأخوة الإنسانية، والأخوة في الدين، فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سُورة "الحجرات"- الآية 13].

ويقول عز وجل في موضع آخر من السُّورة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}؛ حيث تمت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج.

وبعد وفاة الرسول "صلَّى اللهُ عليه وسلَّم"، قامت الخلافة، وكان الحكم على منهاج النبوة، ولم يكن مُلْكًا، وكان القائمون عليه والمواطنون، محافظين على حياة البداوة من خشونة العيش والبعد عن الترف بالرغم من سعة المال الذي جاء من الفتوحات الإسلامية، لبلاد الشام والعراق وبلاد فارس.

فكان عمر بن الخطاب يرقِّعَ ثوبه، وكان المسلمون الأوائل بعيدون عن الانغماس في رغد العيش.

ثم يجيء طور الانفراد بالمجد، وقال ابن خلدون إنه الطور المحصور بين قيام الدولة الأموية حتى سقوط الدولة العباسية، وقال إن خلفاء بني أمية كانوا يسيرون على الحق حتى نهاية عصر عمر بن عبد العزيز "ثم بعد ذلك استعمل خلفاؤهم طبيعة المُلك في أغراضهم الدنيوية، ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق، فانصرف الناس عنهم وأيَّدوا الدعوة العباسية".
ويضيف في مقدمته الشهيرة في هذا الصدد: "ثم صرف العباسيون المُلك في وجوه الحق ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد، فكان منهم الصالح ومنهم الطالح، ثم أفضى الأمر إلى بنيهم، فأعطوا الملك والترف حقه، وانغمسوا في الدنيا وباطلها، ونبذوا الدين وراءهم فأذن الله بحربهم، وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملةً".

وفي الأخير، يقود ذلك إلى أمر شديد الأهمية، يجب أن تكون له حاكميته في حياة الإنسان المسلم، وهو أن تكون حياته كلها لله سبحانه وتعالى، خالقه ورازقه والمتصرف في أمره، وتكون حياة المسلم كلها مُسخَّرة لخدمة دين الله، وفي طاعته عز وجل.

ويقول الله تعالى في ذلك آمرًا نبيه "صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، وهو قدوة المسلمين وإمامهم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سُورة "الأنعام"- 162].
هذه الآية تشير بشكل لا لبس فيه، إلى أن الله عز وجل، لم يخلق الإنسان لخاصة الإنسان، وإنما خلقه لخاصة رب العالمين، وما الحضارة والعمران البشري وكل شيء؛ إلا لخدمة هذه الرسالة؛ أن نعبد الله تعالى على الأرض.
والمقصد بذلك العبادة الحقيقية التي تشمل فهم حقيقة العبادة، ودروسها الأخلاقية، فهذه هي أول مراتب الحضارة الإسلامية، ونربط هنا بين "الحضارة" وسمتها "الإسلامية"؛ لأن الحضارات الأخرى المادية يكفيها الأسباب لتنجح، أما نحن؛ أمة التكليف؛ فلا حضارة لنا من دون الدين.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
"باحث مصري في شئون التنمية السياسية والاجتماعية، حاصل على بكالوريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة من جامعة القاهرة عام 1997م، كاتب في موقع "بصائر"، عمل سكرتيرًا لتحرير مجلة "القدس" الشهرية، التي كانت تصدر عن "مركز الإعلام العربي" بالقاهرة، وعضو هيئة تحرير دورية "حصاد الفكر" المُحَكَّمة، له العديد من الإصدارات، من بينها كتب: "أمتنا بين مرحلتين"، و"دولة على المنحدر"، و"الدولة في العمران في الإسلام"، وإيران وصراع الأصوليات في الشرق الأوسط"، وأخيرًا صدر له كتاب "أسس الحضارة والعمران في القرآن الكريم"، وله تحت الطبع كتاب بعنوان "الدولة في العالم العربي.. أزمات الداخل وعواصف الخارج".

شاهد أيضاً

إلى أي مدى خُلق الإنسان حرًّا؟

الحرية بين الإطلاق والمحدودية هل ثَمة وجود لحرية مطلقة بين البشر أصلًا؟ إنّ الحر حرية …