تشكل غزوة أحد الدرس المكلف و الاختبار الصعب الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلمه للفئة المؤمنة والجماعة المسلمة، درس كانت كلفته كبيرة من الجراحات والآهات والآلام، درس تأذى به النبي عليه الصلاة والسلام، ويجيء هذا الدرس ليضع الأمور في نصابها أنّ سنة الله لها مقتضيات في تكوين النفوس والصفوف والإعداد والالتزام بالطاعة والنظام.
وتلة الرماة وأحداثها مشهد أساسي من مشاهد الغزوة التي لا بد أن نقف معها لما لها من دلالة ومكانة مهمة، فلقد جاء في خبر الغزوة أنه عندما وصل جيش المسلمين إلى جبل أحد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم ظهورهم إلى الجبل ووجوههم إلى المدينة، وانتقى خمسين من الرماة تحت إمرة عبد الله بن جبير، ووضعهم فوق جبل عينين المقابل لجبل أحد، وذلك لمنع التفاف جيش المشركين حول جيش المسلمين، وأصدر أوامره إليهم قائلاً: (إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم)، وقال صلى الله عليه وسلم لأمير الرماة: «انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا»، وقال للرماة: «الزموا مكانكم لا تبرحوا منه، فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نُقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا، وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم».
"تلة الرماة هي الحماية والسند، والركن الحصين وتتمثل بالعمل التربوي الذي تحتاجه الحركة الإسلامية بل الأمة بأسرها، والذي بدوره يحمي شباب المسلمين من أن يتخطفهم عدو الداخل والخارج وعدو النفس كذلك"
وكم نحن بحاجة اليوم إلى تلة الرماة تلك، وإلى ثلة من الصحابة كأمثال عبد الله بن جبير ومن بقي معه ولم يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلة الرماة هي الحماية والسند، هي الركن الحصين وهي اليوم في واقعنا تمثل العمل التربوي الذي تحتاجه الحركة الإسلامية بل الأمة بأسرها، والذي بدوره يحمي شباب المسلمين من أن يتخطفهم العدو، عدو الداخل والخارج وعدو النفس كذلك.
تلة الرماة مدرسة تربوية بحاجة اليوم إلى الاستفادة منها وإعادة إحيائها، وقراءتها قراءة متمعنة في محاولة للاستفادة منها واستلهام الدروس والعبر، كي لا نمضي بعيداً عن احتياجات واقعنا وزماننا.
فإذا ما نظرنا إلى تلة الرماة، سنجد المكانة التي حظيت بها من اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والموقع الاستراتيجي، والتخصصية والكفاءة، وغيرها من الإشارات التي سنسقطها على عملنا التربوي لنجد بأن:
- لم تكن تلة الرماة خطة مرحلية جزئية في الغزوة، وكذلك العمل التربوي فهو ليس مجرد مرحلة لها شروطها ومعطياتها وحسب بل هي عملية مستمرة على طول المعركة الممتدة، تعطي من حولها الدروس المستمرة بالمحافظة على الإيمان، والاستمرار فيه وعدم الغفلة عنه بل وتغذيته وتقويته وتمتينه، فالتربية لا تنقطع ولا ينصرف الناس عنها إلى أمر آخر ولا تتوقف عند فترة معينة.
" موقع تلة الرماة هو ذاك الموقع الخلفي الذي يحمي ظهور المسلمين، المكان المرتفع المطل الذي يرى كامل المشهد، وهذا حال العمل التربوي الذي نحتاج إليه"
- موقع تلة الرماة هو ذاك الموقع الخلفي الذي يحمي ظهور المسلمين، المكان المرتفع المطل الذي يرى كامل المشهد، وهذا حال العمل التربوي الذي نحتاج إذ هو صاحب المكانة والموقع الاستراتيجي الذي لا يستغنى عنه في أي لحظة أو مرحلة، وهو صاحب الدور الحيوي الذي يحمي ظهور المسلمين وشبابهم من أن يكونوا لقمة سائغة وهدف سهل للعدو الذي يتربص بالأمة أن تغفل عن نفسها لينقض عليها.
- ومرة أخرى الموقع، إذ التربية هي الحضور الدائم والمعايشة المستمرة، فهي تراقب وتعايش، فبذلك تتعرف على نقاط القوة والضعف والقلة والكثرة والقصور في مسار التربية واحتياجات الأمة والمتربين في وقت واحد، ومن خلال ذلك تستطيع الأمة أن تصوغ رؤيتها التربوية وتضع لذلك برنامجاً واضح المعالم والأهداف، بحيث تحدد الجوانب التي ينبغي التركيز عليها، أو تأجيلها، أو التي تحتاج إلى العمل والتطوير.
- ونجد على التلة المتخصصين الذين اختارهم رسول الله وانتقى من الصحابة لأجل هذه المهمة، وهكذا التربية ينبغي أن يُنتَقى من يمارسها ويؤمن بها انتقاءً خاصّاً، بحيث يكون مؤهَّلاً مدرباً مستعداً الاستعداد النفسي والمعرفي والأخلاقي، ومتمكِّناً من المهارات الدعوية والتربوية لحمل هذه الأمانة وتبعات هذه المسؤولية.
فلا بد من الالتفات الجاد للحفاظ على العمل التربوي وعلو تلة المربين، والعمل على إصلاحات العيوب وسد الثغرات الموجودة في العمل التربوي وخصوصاً داخل أروقة الحركة الإسلامية ومحاضنها التربوية في شتى الساحات، فالشباب اليوم – في بعض البلدان- يعانون من خلل كبير، وضعفٍ واضح، وتقاعس ملحوظ، لا تخفى على المتابعين والمراقبين.
العمل التربوي بطيء الثمرة فلن نجني الثمار سريعاً، وعلينا أن لا نغادر تلك التلة لجمع النتائج حتى نتأكد من إحكام الأمور والسيطرة عليها. صحيح أنها قد تبدو مهمة صعبة وطريقاً طويلاً، ولكنها معركتنا وانطلاقتنا؛ فجزء من معركة الحركة الإسلامية اليوم هي معركة تربوية لا بد من أن تكرّس الجهود لتظفر بها وتؤول النتيجة لصالحها.