مساجد غزة كان لها حضوراً بارزاً خلال أيام العدوان الإجرامي الأخير لقوات الاحتلال الصهيوني على القطاع، ولم يخل سجل الضحايا اليومي من اسم مسجد أصابه دمار كلي أو جزئي حتى بلغ عدد المساجد المدمرة كلياً 73 مسجداً إضافة إلى 205 مسجداً دمرت جزئياً، حسب إحصائيات رسمية صدرت عن المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار) فرع غزة، بما يقارب أكثر من ثلثي مساجد القطاع، وهو ما يعني أن خمسة مساجد على الأقل كانت على قائمة الاستهداف يومياً. خمسة مساجد على الأقل كانت على موعد مع أطنان من المتفجرات شارك في تصنيعها وتمويلها وإطلاقها جهات عديدة تميزت غيظاً لرؤية أطفال غزة يقصدون تلك المساجد، يتفيؤون ظلالها ويرتلون فيها الأنفال والإسراء والفيل والنصر، فأرادوا أن يبيدوا ذلك الجيل الذي بدأ يستعيد هويته وانتماءه، ويدمروا محاضنه التي تصله بالسماء وتعزز فيه عنوان المرحلة التي لا تتجه فيها البوصلة إلا إلى المسجد الأقصى وأكنافه السليبة.
غزة التي جادت بقوافل من الشهداء والجرحى أذهلت الجميع بتمازج عجيب بين مكوناتها المختلفة -الحجر والشجر والدوابّ والبحر والبشر- وهي التي تجرعت مآسي الحصار وويلات الاحتلال معاً، واتحدت في مواجهة العدوان معاً، لتحظى بمصير مشترك تعانقت فيه الحسنيين: الشهادة والانتصار معاً، وليسجل التاريخ في صفحاته حدثاً فريداً استشهدت فيه مساجد غزة، قبابها ومآذنها ومصاحفها مع أئمتها ومؤذنيها ومصليها، لم يبق منها إلا أطلالاً تحكي همجية بني صهيون وحقدهم الدفين.
لم يكن استهداف المساجد المتكرر خلال حرب الفرقان عام 2009م، وحجارة السجيل عام 2012م، والعصف المأكول الأخيرة ضرباً من هستيريا التدمير التي صبغت جرفهم الساقط وحسب، لكن ذلك جاء ضمن سياق ممنهج أراد العدو منه بدرجة أولى "كي الوعي" للأمة والشعوب الإسلامية لتشعر بأنها مع عجزها عن حماية نساء وأطفال غزة، باتت عاجزة كذلك عن الدفاع عن بيوت الله ومقدساته، والتي هي حقيقة لا تخص شعباً أو فصيلاً بعينه، لكنها تمس كل مسلم موحد.
ذلك العجز الذي تيقن الاحتلال منه، أراد أن يرسخه أكثر وأكثر ويزيده حتى يصل إلى حد التبلد الحسي والانهزامية السلبية إزاء ما يجري، وصولاً إلى ذلك اليوم الذي يخطط فيه اليهود أن يهدم فيه المسجد الأقصى وتتهاوى قبابه ومآذنه وتغرق ساحاته وسط كومة من الغبار والدخان والركام، في منظر لا يختلف كثيراً عن مناظر مساجد غزة المهدمة والتي لم يحرك أحد من أمة المليار ونصف ساكناً لأجلها!!
إنه تخطيط مجرم يسعى فيه العدو الصهيوني المحتل إلى جني مكاسب غير مباشرة من عدوانه يستطيع استثمارها على المدى البعيد، حتى وإن فشل في تحقيق أهدافه الرئيسة بضرب المقاومة ونزع سلاحها وتنحيتها عن المشهد.
ولعل تجاربه السابقة التي قام خلالها بتدمير المساجد دون أن يجابه بغضب رسمي أو شعبي إسلامي يليق بحجم الجريمة قد أغرته بتكرارها. إنه -ويا للخزي والعار- بدلاً من ذلك فقد حظي بمكافأة احتكار إيصال مواد البناء عبر معابره ومنافذه، بل وفي حالات كثيرة قام ببيع تلك المواد من أسواقه وتوفيرها للجهات المتكفلة بإعادة إعمار ما هدمه ليجني أرباحاً طائلة بدلاً من أن يتم تجريمه ومحاسبته على فعلته وإرغامه على دفع الثمن باهظاً على ما اقترفته أيديه الآثمة.
تتسارع خطوات تهويد المسجد الأقصى وتتعاظم الأخطار المحدقة به فيما الأمة مذهولة عما يجري دون أن يظهر بأن لديها أي فكرة أو برنامج عمل أو تصور لما يمكن أن تفعله في حال أقدم العدو الصهيوني على ارتكاب جريمته الكبرى التي يتطلع إليها ويمضي نحوها حثيثاً.. ويجري تجاربه علينا من خلال مشاهد الدمار القاسية بحق مساجد غزة كي يتأكد بأن عروق الأمة لا تنبض!؟